لم يكن مجرد مقاتل لكنه استطاع أن يوقع اسمه في سجل التاريخ الإسلامي مرتبطا بفتح عظيم هو فتح الأندلس فلا تذكر الأندلس إلا ويذكر معها اسم هذا البطل الشجاع طارق بن زياد.. ويواصل المؤرخ الإسلامي الكبير د. عبد الحليم عويس أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية استكمال سيرة طارق بن زياد وما أبلى به في هذا الفتح الأسطوري العظيم في معرض كلامه عن فتح الأندلس فيقول:
خطبة طارق :
ترد في بعض الكتب قصة خطبة طارق الملقاة قبل المعركة ، ونحن نعتقد أن مضمونها صحيح؛ لكن صياغتها تعرضت لزيادات كثيرة ... وهذا هو نص الخطبة ؛ التي نسبت إلى القائد البربري العظيم المسلم (طارق بن زياد) :
"أيها الناس : أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم ، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر ، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيوشه وأسلحته ، وأقواته موفورة ، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم ، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ، ولم تنجزوا لكم أمراً ، ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب على رعبها منكم الجرأة عليكم ، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم ، بمناجزة هذا الطاغية ، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة ؛ وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت . وإني لم أحذركم أمراً أنا عنه بنجوة ، ولا حملتكم على خطة أرخص متاعاً فيها للنفوس ، أبدأ بنفسي ، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً ، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي ، فما حظكم فيه بأوفى من حظي (...) وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً ، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً؛ ثقة منه بارتياحكم للطعان ، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان ، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته ، وإظهار دينه بهذه الجزيرة ، وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ، ومن دون المؤمنين سواكم ، والله تعالى وليُّ إنجادكم على ما يكون لكم ذكراً في الدارين . أيها الناس : ما فعلت من شيء فافعلوا مثله ، إن حملت فاحملوا ، وإن وقفت فقفوا ، ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال، وإني عامد إلى طاغيتهم ؛ بحيث لا أنهيه حتى أخالطه ، وأمثل دونه، فإن قتلت فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ، وتولوا الدبر لعدوكم فتبدوا بين قتيل وأسير . وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية ، ولا تعطوا بأيديكم ، وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة ، والراحة من المهنة والذلة ، وما قد أحل لكم من ثواب الشهادة ، فإنكم إن تفعلوا ، والله معكم ومفيدكم ، تبوءوا بالخسران المبين ، وسوء الحديث غداً بين من عرفكم من المسلمين ، وهأنذا حامل حتى أغشاه فاحملوا بحملتي".
وكما قلنا فإن مضمون الخطبة وحدوثها مقبولان ، أما هذه الصياغة فيدور حولها شك كبير!!
طارق ... وأسطورة إحراق السفن :
ويذكر د. عويس" أنه لم يرد أي ذكر ـ ولا أدنى إشارة ـ حول قصة إحراق السفن لدى ابن القوطية؛ الذي يعتبر مصدراً من المصادر الأساسية في فتح الأندلس.
أما صاحب "أخبار مجموعة" ؛ الذي يعدّ أيضاً من أوثق المصادر في تاريخ الفتح الإسلامي للأندلس ، والمنسوب إلى القرن الرابع الهجري، فهو من هؤلاء الذين لم يوردوا أي ذكر لحادثة إحراق السفن هذه ، على الرغم من أن "أخبار مجموعة" من أقدم الكتب ـ بعد جيل ابن عبد الحكم وابن حبيب ـ في التأريخ لفتح الأندلس .
إن هذين المصدرين ـ تاريخ ابن القوطية ، وأخبار مجموعة ـ هما أقدم المصادر الأندلسية ؛ التي بين أيدينا ، وهما يتميزان على المصادر السابقة ، والتي نعرف منها : "فتوح مصر والمغرب والأندلس" لابن عبد الحكم ، و"مبتدأ خلق الدنيا" لابن حبيب ؛ بأنهما مصدران ينتميان إلى المدرسة الأندلسية، بل هما الاستهلال للكتابة التاريخية الأندلسية ، بينما كان ابن عبد الحكم ، وابن حبيب؛ ينتميان إلى المدرسة المصرية ؛ التي سبقت في كتابة تاريخ الأندلس .
وليس من المعقول ـ كما يقول الدكتور/ محمود مكي ـ أن يخفى هذا الخبر الهام على كل المؤرخين السابقين ، فلا يعرفه إلا الإدريسي (أبو عبد الله محمد) ؛ الذي توفي سنة (560هـ) ، وألف كتابه "نزهة المشتاق" سنة (548هـ) ، ومعاصروه أبو مروان عبد الملك بن الكردبوس ؛ الذي لم تعرف سنة وفاته ، على خلاف في أيهما سبق الآخر، وأخذ عنه ، وهو خلاف لا طائل وراءه فهما متعاصران، وإن كنا نميل إلى سبق الإدريسي؛ لأنه أكثر تفصيلاً ، وعنه أخذ الحميري محمد بن عبد الله صاحب "الروض المعطار" وهو الثالث ؛ الذي تبعهما في ترديد هذه الرواية ، كما أن من المرجح أن يكون ابن الكردبوس قد توفي في نهاية القرن السادس الهجري ، ويكون ثمة احتمال بسبق الإدريسي عنه في الزمان حتى وإن تعاصرا.
وتعتبر هذه النصوص الثلاثة ؛ التي وردت عند الشريف الإدريسي والحميري ـ الناقل عن الإدريسي ـ وابن الكردبوس ، هي الأصل الذي اعتمدت عليه كل المصادر التاريخية ؛ التي أشارت إلى قصة الإحراق .
ولا أثر للقصة ـ كما يثبت رصدنا هذا الذي حاولنا أن يصل إلى درجة الحصر ـ في بقية المصادر الأندلسية الأصلية ، سواء تلك التي سبقت هذه المصادر ، أو التي عاصرتها في القرن السادس، أو التي لحقتها حتى نهاية القرن الثامن الهجري.
وإلى جانب رفض التاريخ لقصة أو أسطورة إحراق طارق السفن .
موقف الشريعة من إحراق السفن:
ويضيف" عويس " أن الشريعة ـ أيضاً ـ لا تقبلها ؛ بل تعدها نوعاً من الانتحار غير المباشر ، وعلى هذا الأساس فإن لنا أن نتساءل : كيف سكت التابعون على إحراق طارق للسفن ؟ وهل يعني هذا مشروعية هذا العمل من الناحية الإسلامية؟ وفي عصر كعصر التابعين ولما ينته القرن الأول الهجري : هل تسمح هذه البيئة الإسلامية بإحراق السفن دون معارضة ، ودون احتجاج من الساسة، أو الفقهاء ، أو المفكرين ، أو الشعراء؟
ومن زاوية أخرى ـ شرعية أيضاً ـ هل يجوز في الإسلام مبدأ المغامرات الانتحارية ؟ لقد انسحب المسلمون بقيادة خالد بن الوليد من موقعة (مؤتة) بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب،
وزيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحة ؛ حين أدرك خالد ومعظم الجيش أن المعركة انتحارية إزاء هذا الفارق في العدد بين جيش المسلمين ، وجيش الروم.
وقد كان هناك مسلمون فدائيون يطلبون الاستمرار في القتال ، ومع ذلك آثر الجيش الانسحاب بقيادة خالد بن الوليد ، وسماهم الرسول r (الكرار) رداً على من سخروا منهم في المدينة وسموهم (الفرار) .
أليس هذا السلوك النبويّ تشريعاً إسلامياً يُحَرِّم المغامرات الانتحارية ، ويُجيزُ الانسحاب في حالة وجود مفاجآت تجعل المعركة إبادة للمسلمين؟
ومن جانب آخر نتساءل: هل هذه الخسارة المالية ؛ التي لا جدوى كبيرة وراءها في عصر يصعب فيه صناعة السفن، والتي يمكن أن توجد طرق بديلة عنها ، هل هي جائزة شرعاً ؟
إن كل هذه الجوانب ، سواء تلك التي تتصل بالتضحية بالبشر (اثني عشر ألف جندي وسبعمائة تقريباً) ، أم بالسفن؛ تجعل من إقدام طارق على هذا الإحراق عملاً مخلاً بالشريعة ، وهو ما لا يمكن للتابعين ـ بشكل يشبه التواطؤ ـ أن يسكتوا عليه ، أو على الأقل أن لا يظهر أي خلاف فقهي حولـه ... لكن هذا السكوت يعني أنه لم تكن هناك قضية من هذا القبيل ، ولم يثر بالتالي أي خلاف ؛ لأنه لا يمكن إثارة أي خلاف حول قضية لم تحدث فعلاً ، وهو ما نميل إليه بالنسبة لتابعي صالحٍ مثل طارق بن زياد ، وبالنسبة لمن معه من التابعين ـ رضي الله عنهم ـ .