فاتحة الكتاب، رغم قصرها إلا أنها تحوي معاني لو وزعت على آلاف الكتب لملأتها، ومن هذه المعاني العظيمة قوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ»، ما يدل على أن العبد لا بد أن يكون عابدًا لله، إذ أننا في فلكها ندور، فإذا بدأنا بالعبادة انتهينا بالاستعانة، وإذا بدأنا بالاستعانة انتهينا إلى العبادة، والاستعانة نوع من أنواع الدعاء، والدعاء عبادة، والعبادة استعانة بالله تعالى فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ وهكذا يستمر الإنسان بين إياك نعبد وإياك نستعين، أي نطلب العون والتأييد والتوفيق.
وفي ذلك يقول الإمام السلمي في حقائقه: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول، سمعت أبا حفص الفرغانى يقول: «من أقر بـ ِ(إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فقد برئ من الجبر والقدر».
قلب الفاتحة
غالبية العلماء يتفقون على أن «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ»، إنما هي قلب الفاتحة وأهم أسرارها على الإطلاق، ذلك أن اتجاه الخطابِ يتغير فيها من الغائِب إلى الحاضر، ويكأن العبد بعد أن يثنى على ربه سبحانه وتعالى بالحمد وما هو أهله، يقترب حتى يحضر بين يدي ربه جل وعلا، فيخاطبه قائلاً: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾.
وكأن العبد يقول لربه: بالأصالة عن نفسي، ونيابة عن جميع إخواني المؤمنين: إياك وحدك يارب العالمين نعبد، ولا نعبد غيرك.. وإياك وحدك نستعين، ولا نستعين بغيرك.. وهذا أبلغ في التذلل والعبادة، وأرجى في الاستجابة وحصول العون والمدد الإلهي، وهي بالتأكيد تحمل كل معاني التوحيد والإخلاص لله عز وجل، وهي الشفاء والدواء لكل قلب حائر، لأنها تدفع القلوب بعيدًا عن الكبر والغرور والرياء، وتمنحه فقط صفة واحدة وهي العبودية واتباع الله عز وجل.
اقرأ أيضا:
نصيحة نبوية لتخفيف الألم عند الابتلاءالعون من الله
الله عز وجل يريد أن يقول لنا من هذه الجملة العظيمة، أن العون كله بيده وحده، وألا نلجأ أو نتوجه أو نطلب العون إلا منه سبحانه، فكأنه يقول: إن لكم أن تستعينوا، فمنكم الطلب والكسب والتوجه، ومني الخلق والإيجاد والأخذ بأيديكم، وكذلك منكم التحفز والمبادرة، ومني السمو بكم نحو أعلى الأعالي، ونحن بدورنا إذ نستجيب لأمره، فنطلب منه ونتعلم من كلامه المجيد كيفية الاستعانة، ومن ثمّ فإننا في كل أعمالنا التي ننجزها بالتأكيد فيها جانب كبير من أثر "الفاعل الخالق"، ذلك أن كل ما يأتي إلى الوجود هو خالقه، وأما الكسب فهو منا، وفي أفعالنا يجتمع هذان الأمران، لذا من استعان بالله وصل ونال ما يريد، ومن عبد الله وفي نيتها الاستعامة به، أيضًا نال ما يريد، بينما من ابتعد عن ذلك، قد ينوله كثير من الخير، لكن ليس بلذة من طلبها من الله.