هلت علينا الأيام العشرة الاخيرة من شهر رمضان، وهي أيام خير وبركة، لما فيها من فضل دل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وشرفها الله عز وجل بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
ومن قدوم هذه الأيام المباركة، ينشغل أكثر الناس بشراء ملابس العيد، والتخطيط للنزهة خلال أيام الإجازة، ومنهم من ينشغل بالتجارة وتصفية أرباحه خلال العام، ومنهم من يواصل الليل بالنهار لاستغلالها في موسم جني المكاسب الدنيوية من بيع وشراء، ويتناسى فضل هذه الأيام العظيمة، وإحيائها، والاجتهاد فيها من أجل تعويض ما فاته من رمضان، والفوز بليلة القدر، وتعظيم ثوابه من خلال الطاعة في هذه الأيام القليلة المتبقية.
ربح البيع أبا يحيى
ومع انشغال الناس في جني الأرباح الدنيوية، ضرب الصحابي الجليل صهيب بن سنان الرومي، المثل في استغلال وجني الأرباح الحقيقية، التي تجني السعادة في الدنيا والأخرة، من خلال التجارة مع الله عز وجل.
كان النبي صلى الله عليه وسلم في منتصف شهر ربيع الأول، ما زال مقيما بقباء بعد هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وعزم صهيب الرومي على الهجرة فرارا بدينه، وأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن هاجر من الصحابة، وكان هو وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما آخر من هاجر .
وكانت هجرة صهيب الرومي رضي الله عنه صورة من صور الهجرة التي تجلّت فيها معاني التضحية بالمال وبذله رخيصاً في سبيل الله، فروى الحاكم في المستدرك، أنه حين خرج صهيب الرومي مهاجرا تبعه نفر من المشركين ليمنعوه فأدركوه، فوقف واستخرج نباله من كنانته وقال لهم: " يا معشر قريش تعلمون أني من أرماكم، والله لا تصلون إليَّ حتى أرميكم بكل سهم معي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي بيدي منه شيء " .
فقالوا له : " أتيتنا صعلوكا فكثُر مالك عندنا، ثم تريد أن تخرج بنفسك ومالك؟، والله لا يكون ذلك، فقال: أرأيتم إن تركت مالي لكم هل تخلون سبيلي؟، قالوا: نعم، فدلّهم على الموضع الذي خبّأ فيه ماله بمكّة، فسمحوا له بإتمام هجرته إلى المدينة المنورة، بعد أن ضحّى بكل ما يملك في سبيل دينه .
بلغ خبر صهيب الرومي وما فعله مع المشركين، للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن لحق به بالمدينة المنورة، فقال له عليه الصلاة والسلام: ( ربح البيع أبا يحيى )، وتلا النبي قول الله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}( البقرة الآية: 207 ) .
وفي رواية أخرى قال صهيب رضي الله عنه: ( وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقِباء قبل أن يتحول منها، فلما رآني قال: يا أبا يحيى! ربح البيع، ثلاثا، فقلت: يا رسول الله ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام ) رواه الحاكم .
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه في تفسيره لقول الله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }( البقرة الآية: 207 ): " نزلت في صهيب بن سنان وأصحابه، اشترى نفسه بماله من أهل مكة " .
اقرأ أيضا:
8فضائل للنهي عن المنكر .. سفينة المجتمع للنجاة ودليل خيرية الأمة الإسلامية ..تكفير للذنوب ومفتاح عداد الحسناتكيف تنتهز الفرصة وتربح الصفقة في العشرة الأخيرة؟
عن أم المؤمنين عائشةَ بنت أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما أنها روت حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان فقالت: إنَّه إذا دخل العشر شدَّ المئزرَ، وأحيا ليله، وجدَّ في العبادة، وشمَّر عليه الصلاة والسلام.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان اجتهادًا حتى لا يكاد يقدر عليه؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره)).
ومن وصايا اغتنام هذه الفرصة العظيمة في العشرة الأواخر من رمضان:
1- نصيحة رب الأسرة لأهل بيته على إحياء ليالي العشر الأواخر من رمضان، ويوقظهم للعبادة، ويبين لهم فضيلة هذه الليالي، لاغتنام الفرصة بين صلاة وتلاوة قرآن، وذكر وتسبيح، واستغفار ودعاء.
2- الاجتهاد في الصلاة، فعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((عليك بكثرة السجود؛ فإنك لن تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجةً، وحط عنك بها خطيئة)).
3- ختم القرآن في العشر الأواخر من رمضان لمن استطاع إلى ذلك سبيلًا، بأن يختم القرآن قراءة في صلاته؛ بحيث يصلي كل ليلة بثلاثة أجزاء من القرآن الكريم، أو يقرأ ثلاثة أجزاء خارج الصلاة، فيختم القرآن في الليلة الأخيرة من ليالي العشر الأواخر من رمضان، وقد جاء عن بعض السلف الصالح اجتهادهم في ختم القرآن في العشر الأواخر من رمضان.
4- الإكثار من ذكر الله تعالى والدعاء، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والورق، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى))؛ رواه الترمذي.
5- الإكثار من الاستغفار: فعن الأغر المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة))؛ [رواه مسلم]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرةً))؛ [رواه البخاري]، وعن أبي يسار رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غُفر له، وإن كان فرَّ من الزحف)).
وأفضل صيغة للاستغفار ما جاء عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
6- الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى عليَّ صلاةً واحدةً، صلى الله عليه عشر صلوات، وحطت عنه عشر خطيئات، ورفعت له عشر درجات)).
7- الخلوة مع الله جل جلاله بالاعتكاف والذكر، وترك الانشغال بالدنيا.