يستمر المسلم في البحث عن سبل الهداية وكل ما يعين على هذا الطريق الطويل والشاق في الحياة الدنيا للنجاة في الأخرة، وسط أشواك البحث عن الأرزاق وتوفير الحياة الكريمة، حيث دائما ما يتقاطع الطريقان، من خلال بعض المطبات التي تعيق الإنسان عن تحقيق هذه المعادلة الصعبة، ألا وهي رضا ربه أولاً ثم السلامة من شرور الناس ثانيًا.
والوصول لمعالم طريق الهداية صعب جدًا، لا يصل إليه المؤمن إلا بتوفيق الله إليه، وهو ما فطن إليه إبراهيم عليه السلام في رحلة البحث عن ربه وعن الحقيقة التي يسعى إليها من أجل معرفة الحق والاسترشاد به، قال تعالى: "فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)".
فقد عرف إبراهيم أن الهداية بعد رحلة البحث الشاقة لا تأتي إلا من الله والابتهال إليه بالتوفيق إليها، لذلك جاءت معالم الهداية للمسلمين في سورة الفاتحة بالدعاء " اهدنا الصراط المستقيم".
وكلمة ﴿ اهْدِنَا ﴾: فعل أمر معناه الدعاء؛ لأن الأمر إذا صدر من الأعلى إلى الأدنى فهو أمرٌ، وأما إذا جاء من الأدنى إلى الأعلى فهو دعاء، وإن كان من المتساويينِ فهو التماسٌ.
وجاءت الآيات القرآنية بالحديث عن الهداية في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213، النور: 46]، وقوله: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الحج: 54]، وقوله: ﴿ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 87]، وقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 161]، وقوله تعالى: ﴿ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 121]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].
اظهار أخبار متعلقة
الهداية تنقسم لقسمين:
أحدهما هداية البيان والدَّلالة والإرشاد، كما قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ ﴾ [طه: 128]؛ أي: أفلم يتبيِّن لهم، وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ [الأنعام: 97]؛ أي: لتستدلوا بها وتسترشدوا.
وهذه الهداية عامة؛ فالله تعالى هادٍ، بمعنى مبيِّن ومرشِد للعباد، كما قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾ [فصلت: 17]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3]، وقال تعالى: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 10]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾ [الليل: 12].
والرسل هُداةٌ إلى الله تعالى، كما قال تعالى عن أفضلهم نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]، وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال لأبيه: ﴿ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 43]، وقال موسى عليه السلام مخاطبًا فرعون: ﴿ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ [النازعات: 19].
والدعاة إلى الله من المؤمنين هداةٌ، كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 38].
والقسم الثاني: هداية التوفيق والإلهام، من الله تبارك وتعالى فقط، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص: 56]، وقال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 272].
وقال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [الرعد: 31]، وقال تعالى: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [النحل: 9]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [طه: 50]،و قال تعالى: ﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ﴾ [الأعراف: 178].
اظهار أخبار متعلقة
ويقول ابن القيم إن للهداية عشرَ مراتب هي:
1/ هداية العِلم والبيان للحق.
2/ أن يُقْدِرَهُ الله عليه.
3/ أن يجعله مريدًا له.
4/أن يجعله فاعلًا له.
5/أن يثبِّتَه على ذلك.
6/أن يَصرِف عنه الموانع والعوارض.
7/أن يهديَه في الطريق نفسِها هدايةً خاصةً أخَصَّ من الأُولى، فإن الأولى هدايةٌ إلى الطريق إجمالًا، وهذه هداية فيها وفي منازلها تفصيلًا.
8/ أن يُشهِدَه المقصود في الطريق فلا يُحجَب عنه بالوسيلة.
9/ أن يُشهِدَه فقرَه وضرورته إلى هذه الهداية فوق كل ضرورة.
10/ أن يُشهِدَه الطريقينِ المنحرفينِ عن طريقِها، وهما طريق أهل الغضب، وطريقُ أهل الضلال.
ماهو الصراط المستقيم؟
الصراط المستقيم: هو الطريق المعتدل الواضح الذي لا اعوجاج فيه ولا التواء، وهو صراط الله، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ﴾ [الأنعام: 153]، وقال تعالى: ﴿ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الشورى: 53].
وهو الصراط الذي عليه ربُّنا تبارك وتعالى، كما قال هود عليه السلام: ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 56].
وهو الصراط المؤدي إلى الله تعالى، قال تعالى: ﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [الحجر: 41]، وقال تعالى: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾ [النحل: 9]؛ أي: إن السبيل القاصد، وهو المستقيم المعتدل، يرجع إلى الله تعالى ويوصِّل إليه.
والمراد بالصراط المستقيم: طريقُ الحقِّ والإيمان، والدين القيِّم، ومعرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربِّه في الكتاب والسُّنة، والعمل به وفق ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إخلاصًا لله، ومتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].