من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى أن يكون العبد في صلاته مع الله بقلبه وجميع جوارحه، لا يشغله عن الله شاغل من شواغل الدنيا وتفاصيلها وشهواتها وههموها، قال ابن القيم رحمه الله في شرح وصية نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام :{ وآمركم بالصلاة، فإذا صليتم، فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت }.
فربما يتعرض كثير منا لالتفات القلب عن الله عز وجل إلى غير الله تعالى، كما يتعرض لالتفات البصر.
وقد سئل رسول الله عن التفات الرجل في صلاته فقال: { اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد } [رواه البخاري].
فمن يشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه، فامتلأ قلبه من هيبته، وذلت عنقه له، واستحيى من ربه تعالى أن يقبل على غيره، أو يلتفت عنه، هو من الخاشعين الفائزين يوم القيامة.
اظهار أخبار متعلقة
الوقوف بين يدي الله
فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله، وبينه وبينه حجاب، لم يكن إقبالاً ولا تقريباً، فما الظن بالخالق عز وجل؟ وإذا أقبل على الخالق عز وجل وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس، والنفس مشغوفة بها، ملأى منها، فكيف يكون ذلك إقبالاً وقد ألهته الوساوس والأفكار، وذهبت به كل مذهب؟.
فالعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقام، وأقربه وأغيظه للشيطان، وأشد عليه، فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهاد أن لا يقيمه فيه، بل لا يزال به يعده ويمنِّيه وينسيه، ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهوِّن عليه شأن الصلاة، فيتهاون بها فيتركها. فإن عجز عن ذلك منه، وعصاه العبد، وقام في ذلك المقام، أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكِّره في الصلاة ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجة، وأيس منها، فيذكره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها، ويأخذه عن الله عز وجل، فيقوم فيها بلا قلب، فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجل الحاضر بقلبه في صلاته، فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله، لم تخفف عنه بالصلاة.
فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه.
وقد روي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ( ما من مؤمن يتم الوضوء إلى أماكنه، ثم يقوم إلى الصلاة في وقتها فيؤديها لله عز وجل لم ينقص من وقتها، وركوعها وسجودها ومعالمها يستضيء بنورها ما بين الخافقين حتى ينتهي بها إلى الرحمن عز وجل، ومن قام إلى الصلاة فلم يكمل وضوءها وأخرها عن وقتها، واسترق ركوعها وسجودها ومعالمها، رفعت عنه سوداء مظلمة، ثم لا تجاوز شعر رأسه تقول: ضيعك الله كما ضيعتني، ضيعك الله كما ضيعتني ) .
الصلاة المقبولة
فالصلاة المقبولة، والعمل المقبول أن يصلي العبد صلاة تليق بربه عز وجل، فإذا كانت صلاة تصلح لربه تبارك وتعالى وتليق به، كانت مقبولة. والمقبول من العمل قسمان: أحدهما: أن يصلي العبد ويعمل سائر الطاعات وقلبه متعلق بالله عز وجل، ذاكر لله عز وجل على الدوام، فأعمال هذا العبد تُعرض على الله عز وجل حتى تقف قبالته، فينظر الله عز وجل إليها، فإذا نظر إليها رآها خالصة لوجهه مرضية، وقد صدرت عن قلب سليم مخلص محب لله عز وجل متقرب إليه، أحبها ورضيها وقَبلهَا.
والقسم الثاني: أن يعمل العبد الأعمال على العادة والغفلة، وينوي بها الطاعة والتقرب إلى الله، فأركانه مشغولة بالطاعة، وقلبه لاه عن ذكر الله، وكذلك سائر أعماله، فإذا رفعت أعمال هذا إلى الله عز وجل، لم تقف تجاهه، ولا يقع نظره عليها، ولكن توضع حيث توضع دواوين الأعمال، حتى تعرض عليه يوم القيامة فتميز، فيثيبه على ما كان له منها، ويرد عليه ما لم يرد وجهه به منها.
وروي أن العبد إذا قام يصلي قال الله عز وجل: ( ارفعوا الحجب بيني وبين عبدي )، فإذا التفت قال: ( أرخوها )، وقد فسر هذا الالتفات بالتفات القلب عن الله عز وجل إلى غيره، فإذا التفت إلى غيره، أرخى الحجاب بينه وبين العبد، فدخل الشيطان، وعرض عليه أمور الدنيا، وأراه إياها في صورة المرآة وإذا أقبل بقلبه على الله ولم يلتفت، لم يقدر على أن يتوسط بين الله تعالى وبين ذلك القلب، وإنما يدخل الشيطان إذا وقع الحجاب، فإن فرَّ إلى الله تعالى وأحضر قلبه فرَّ الشيطان، فإن التفت حضر الشيطان، فهو هكذا شأنه وشأن عدوه في الصلاة. وإنما يقوى العبد على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها بربه عز وجل إذا قهر شهوته وهواه، وإلا فقلب قد قهرته الشهوة، وأسره الهوى، ووجد الشيطان فيه مقعداً تمكن فيه كيف يخلص من الوساوس والأفكار.