ربما لا يعرف البعض أن الحجر الصحي الذي يتم تطبيقه في هذه الأيام، والذي يقوم على فكرة العزل الذاتي، وبقاء الناس في منازلهم، أو التحفظ على المرضى في أماكن منعزلة عن الأصحاء، ضمن الإجراءات الوقائية من وباء "كورونا"، هي فكرة كان النبي صلى الله عليه وسلم أسبق في الدعوة إليها قبل 14 قرنًا من الزمان.
فقد دعا عند تفشي وباء الطاعون إلى لزوم الناس أماكنهم، فلا يدخلون إلى مكان انتشار الوباء، ولا يخرج الذين أصابهم الوباء من بلدهم إلى غيرها، وهو إجراء صحي بكل المعايير الطبية العالمية حاليًا.
وبلغ الحد إلى أنه جعل الخروج من البلدة كالفرار من الزحف، وهو من كبائر الذنوب، حتى يثبت الناس في أماكنهم، فلا يدخلون ولا يخرجون.
اقرأ أيضا:
كل ما تريد معرفته عن برامج عمرو خالد خلال مسيرته الدعويةروى البخاري في صحيحه قصة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين خرج إلى الشام، فلما وصل إلى منطقة قريبة منها يقال لها: "سرغ"، بالقرب من اليرموك، لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، فقال عمر ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تُقْدِمَهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعاهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعاهم فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تُقْدِمَهم على هذا الوباء.
فنادى عمر في الناس إني مُصَبِّح على ظَهْرٍ فأَصْبِحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبًا في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه"، قال: فحمد اللهَ عمر ثم انصرف.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف" رواه أحمد.
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم، مثلاً عظيمًا في كيفية مواجهة الأزمات والمصائب، والتصدي لها بإرادة جماعية، لا فردية، حتى ينجو الجميع ويأخذوا بأيدي بعض إلى بر الأمان.
وفي الحديث الذي رواه النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا"، إذن الأمر واضح تمامًا في ضرورة أن يأخذ الجميع بأيدي بعض حتى ينجوا، وإلا - لا قدر الله – غرقوا جميعًا.
وانطلاقًا من المبدأ الإسلامي العظيم في ضرورة الحفاظ على النفس، ندعو كل المصريين إلى الالتزام بالإجراءات الوقائية التي تدعو إليها الجهات الصحية بأن يلزموا بيوتهم، حتى تمر هذه الفترة بأمان وسلام على الجميع بإذن الله، وحتى يأتي شهر رمضان، وجميع المصريين سعداء، فرحين فيه بالطاعات.
جلوسنا في المنزل ليس رفاهية، ولا ترفًا بل هو ضرورة، وفرضًا على الجميع، حتى ندرك رمضان، ونحن على أفضل حال.. ننعم فيه بأجواء العبادة.. ونسعد فيه بلقاء الأحبة.. "خليكم في البيت.. رمضان يستاهل".. "خليكم في البيت رمضان يستاهل عشان ليلة القدر".
هذا الوباء الذي ضرب العالم، وأثار الفزع في نفوس الناس هو رسالة للبشرية للناس: "أنكم تجاوزتم الحدود".. ليس رسالة غضب من الله تعالى، بل هو رسالة تربية، حتى لا نغفل الجانب الروحي في الحياة، وننسى حقيقة وجودنا فيه الإعمار وعبادة الله الأحد.. "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ".
هو "قرصة أذن" كما يقولون لكل غافل حتى ينتبه من غفلته، ولكل متجاوز في حق الله حتى يتوقف ويعود إلى صوابه ورشده، فلو لم تكن هناك الابتلاءات لتمادى الإنسان في غيه وطغيانه إلى أبعد حد، لكنه قانون الله في الكون، الذي يضع ضوابط لكل شيء، ولا يترك الأمور هكذا عبثًا.
هي رسالة ربانية بحاجة جميعًا إلى أن نستوعب معانيها، وندرك ما فاتنا فيما هو لاحق من حياتنا، وأن نقف مع أنفسنا وقفة جادة لا تهاون فيها، نشد فيها عليها، ونلزمها بما يحبه الله وإن كرهت، ولن تستقيم لنا الحياة، إلا إذا كان هوانا فيها موافقًا لهوى النبي صلى الله عليه، وعملنا بجد على تطبيق أوامره، واجتناب نواهيه، "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ".
واتباع هدي الرسول يجلب محبة الله، بأن نفعل ما يدعو إليه، ونجتنب ما ينهى عنه، وما دام وهو المعصوم صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الخروج في وقت انتشار الوباء عن الدخول إلى بلد والخروج منها، فنحن بنصيحته أولى أن نتبعها.. فلا خطر علينا، إذا طبقنا الإجراءات الوقائية والتعليمات الصحية بحذافيرها، بدون تراخ أو تهاون منا.
كلنا مأمورون بأن ننصح بعضًا ونحذر بعضًا، حتى يكتب الله لنا السلامة أجمعين، وما أحوج البشرية بأن نقتدي بسلوك هذه النملة التي كرمها الله بذكرها في القرآن في سورة "النمل"، حين سارعت إلى تحذير بقية النمل من مصير الهلاك التي ينتظرها، حتى تتفادى الخطر.
القرآن يقول حكاية عنها: "حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"، لم تنشغل النملة بمصيرها فقط، ولم تعمل على مواجهة الخطر بمفردها، بل انشغلت بمصير غيرها، وحثتهم على حماية أنفسهم في رسالة تحذير متناهية القصر، لكنها بالغة الوضوح، فكانت النجاة لهم أجمعين، وكذلك نحن جميعًا نسأل الله أن ينجينا من كل كرب وبلاء.