يدخل الكثير من المسلمين شهر رمضان، ولم يحدد أهدافه من الصوم، فيختصر جزاءه على الجوع والعطش، بالرغم من الأهداف التي وضعها لنا ربنا سبحانه وتعالى في هذا الشهر الكريم لحصاد الجائزة الكبرى في الدنيا والأخرة، خاصة وأن رمضان فرصة كبيرة في تطوير الذات وتنمية القدرات التي تساعد على بناء الفرد المتميز في الفهم والتخطيط والإنجاز؛ و إدراك نفحات شهر رمضان المبارك، و تحديد نقطة البداية، وذلك عن طريق (النية الخالصة) التي تجتمع مع الهدف الأعظم (مغفرة الله) التي يدفع إليها الإيمان المتجذر في قلب العبد، فقد جاء في الحديث: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (رواه البخاري).
ولاشك أن استحضار هذا الهدف مع معرفة حالة النفس، والتحلي بعميق الرجاء والأمل في موعود الله، يزيد من الحرص والإصرار على نيل المغفرة الموعود بها ومحاولة الوصول إليها، وبخاصة إذا تكررت فرصتها مع قيام ليالي الشهر المبارك أو ليلة منه(ليلة القدر) كما جاء في الأحاديث النبوية.
أهداف الصيام كما حددها النبي
ولعل أفضل ما تعه من أهداف تحصد بها طريق الخير في رمضان، ما نبه عله النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روي عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ عَز وجل:"كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ. وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَومئذ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يوم القيامة مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفَطْرِهِ. وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ".
وقد ذكرنا في حديث سابق شيئاً من فضائل الصوم، ونذكر هنا طرفاً آخر من فضائله على ضوء هذا الحديث، ونبين كيف عظم الله هذه العبادة ورفع من شأنها بين العبادات الأخرى، ووعد من واظب عليها وعداً حسناً.
فنقول: إن الله عز وجل قد نسب الصوم لنفسه فقال: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ".
وفي هذا من التعظيم والتفخينم والتكريم والبلاغة في التعبير عن تأدية هذه المعاني ما فيه.
وإنه لينشأ من هذه العبارة سؤال لابد من الإجابة عليه.
حاصله: لماذا نسب الله الصوم له ونسب سائر الأعمال إلى ابن آدم مع أن الصوم من عمله، وهل المراد بالعمل الحسنات والسيئات أم الحسنات فقط، وما الفائدة من نسبة الصوم إلى الله تبارك وتعالى، ولم قال: "وَأَنَا أَجْزِي بِهِ"، وهو سبحانه يجزي به وبغيره أحسن العمل؟ إلى غير ذلك مما يدور في خاطر المسلم.
والجواب يتلخص فيما يأتي:
المراد بعمل ابن آدم في الحديث حسناته لاستثناء الصوم منه، فهو عمل صالح مستثنى من عمل صالح.
ومعنى كونه له: مكتوب له عند الله الحسنة بعشر أمثالها وأضعاف ذلك كثير، كما صرح به الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي".
وإضافة الصوم له جل شأنه: (قيل لأنه عم لا يدخله الرياء بخلاف غيره من الأعمال، فإذا أمسك المسلم من شهوتي البطن والفرج من الفجر الصادق إلى غروب الشمس بنية التعبد فقد صدق الله عز وجل وصدق مع نفسه, وهو يستطيع أن يأكل ويشرب ويأتي شهوته في الخفاء – لو أراد – ويتظاهر بالصوم، فلما لم يفعل ذلك كان صومه خالياً من الرياء في الغالب.
وقيل: أضاف الصوم إليه سبحانه لأنه هو الذي يتولى جزاءه إذ ليس هو من الأعمال الظاهرة فتكتبه الحفظة.
وقيل لأنه ليس للصائم فيه حظ يشتهيه ويهواه.وقيل: لما كان الاستغناء عن الطعام من صفاته تعالى أشبهه الصائم في هذه الصفة تعبداً وتقرباً. وإن كان الله تعالى لا شبيه له في ذاته ولا في صفاته.
وإذا وقع في ذنب صغير استعظمه في نفسه، وتاب منه من فوره، وأتبعه بحسنة تمحوه وتذهب أثره، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ"، أما من صام عن شهوتي البطن والفرج ولم يصن لسانه وسائر جوارحه عن المعاصي فلا أجر له في صومه، ولا يتناوله هذه الوعد الوارد في الحديث.
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ بِأَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ" أي ليس له إلا العناء والتعب.
فالصوم يقوي إرادة الصائم، ويضعف إرادة الشيطان، فيكون الصائم في مأمن من وساوسه وهواجسه ومغرياته ونزعاته، ويجعله قادراً على كبح جماح نفسه، والتغلب على نزواته الطائشة.
ولهذا أمر النبي – صلى الله عليه وسلم من لا قدرة له على الزواج أن يصوم، فقال: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّ لَهُ وِجَاءٌ". أي وقاية وقطع للشهوة أو إضعاف لها.
والصوم يمكن الصائم من الصبر على المكاره ومواجهة الشدائد بصدر رحب وقلب مطمئن، ويطهر قلبه من الآفات التي تبعث على الحقد والحسد والرياء والغرور والغضب، ويحمله على كظم الغيظ والعفو والصفح والتسامح، ويجعله في مأمن مما يخافه على نفسه من دواعي غضب الله تعالى، إذا هو صام كما ينبغي أن يكون الصيام.
كيف تحصد الجائزة؟
حتى تحصد جائزة الصوم ويؤتي ثماره ينبغي على الصائم أن يعمل بقوله – صلى الله عليه وسلم -: "فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَسْخَبْ".
والرفث: هو الجماع ومقدماته ودواعيه، كالتفكر فيه والحديث عنه، والإتيان بما يؤدي إليه مما قد يستخف الإنسان به، ويكون خطوة من خطوات الشيطان إليه.
فإن الشيطان لا يأمر الإنسان بالمعصية بطريق مباشر ولكنه يدعوه إليها حثيثاً ويقربه منها شيئاً فشيئاً، وبرغبة في ارتكابها بشتى الحيل، ويسلك به المسالك الموصلة إليها، ويستعين عليه بشياطين الإنس من الرجال والنساء. فعلى المسلم أن يقطع عليه الطريق من أوله ولا يخطو معه إلى المعاصي خطوة واحدة.
يقول الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } (سورة النور: 21).
فعلى الصائم أن يجعل من صومه وقاية لنفسه بإحسان صومه، فلا يكتفي بترك شهوتي البطن والفرج، بل يجب عليه أن يكف لسانه عن الغيبة والنميمة والكذب واللغو، ويغض بصره عما حرم الله عليه، ويمنع سائر جوارحه من ارتكاب المعاصي والمكاره ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وقد يتعرض الصائم لما يحمله على ارتكاب المعصية، فيرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما ينبغي فعله في هذه الحال فيقول: "فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ".
ويختم النبي صلى الله عليه وسلم حديثه بقوله: "لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفَطْرِهِ. وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ".
وفرحه بالفطر كناية عن أحساسه بنعمة التوفيق، وشعوره بالنجاح في التغلب على شيطانه وهواه، وتوقعه الرضا والقبول ممن أخلص له الصوم، وصدقه النية في القول والعمل.
وأما الفرحة الأخرى فهي الفرحة الكبرى، ويا لها من فرحة عمل لها الأنبياء والمرسلون والأولياء الصالحون وقصروا همتهم عليها وجعلوها منتهى البغية.