لم تتوقف حكايات الشاعر أمية بن أبي الصلت على نبوغه في الشعر، بل امتلأت حياته بالحكايات الغريبة والأساطير، لشدة اقتران شعره بالأخلاق والحكم التي وردت في القرآن الكريم، وإيمانه
بالنبوة، في الوقت الذي غلبت عليه نعرته الجاهلية في أن يكون هو النبي المنتظر وليس غيره، من فرط حكمته، حتى أن غلب هذا على شعره، فقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: " أسلم شعره وكفر قلبه".
وأمية بن أبي الصلت شاعر مخضَرم من قبيلة ثقيف، التي كانت تسكُن الطائف، وكان أبوه أيضًا شاعرًا، كما كانت له أخت تسمَّى: "الفارعة"، وله بنتان وعدة أبناء بعضهم شعراء، وأخٌ اسمه: "هذيل".
اقرأ أيضا:
قصة النار التي أخبر النبي بظهورها أُسِر وقتِل مشرِكًا في حصار الطائف، وهو من الحنفاء الذين ثاروا على عبادة الأصنام وآمنوا بالله الواحد واليوم الآخر، وأزعجَهم التردِّي الخُلقي الذي كان شائعًا في الجزيرة العربية، وتطلَّعوا إلى نبي يبعث من بين العرب، بل إنه هو بالذات كان يرجو أن يكون ذلك النبي.
كان أمية بن أبي الصلت يخالِط رجال الدين، ويقرأ كتبَهم، ويقتبِس منها في أشعاره، وكان رجل أسفار وتجارة، كما كان يمدَح بعض كبار القوم؛ كعبدالله بن جدْعان، وينال عطاياهم وينادِمهم على الخمر، وإن قيل: إنه قد حرَّمها بعد ذلك على نفسه، وتُجمِع المصادر على أنه مات كافرًا حسدًا منه وبَغيًا؛ إذ ما إن بلَغه مبعَث النبي صلى الله عليه وسلم حتى ترَك الطائف فارًّا إلى اليمن ومعه بنتاه اللتان تركهما هناك، وأخذ يجول في أرجاء الجزيرة ما بين اليمن والبحرين ومكة والشام والمدينة والطائف.
تذكُر لنا الروايات أنه وفَد على النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة وهو لا يزال في أم القرى واستمَع منه إلى سورة "يس" وأبدى تصديقه به مؤكِّدًا لمن سأله من المشركين أنه على الحق، بيد أن حقده الدفين منَعه من أن يُعلِن دخوله في الإسلام، رُغم أنه اعتزَم أن يذهب إلى المدينة للقاء الرسول مرة أخرى وإعلان دخوله في الدين الجديد، لكن الكفار خذَلوه وأثاروا نار حقده على النبي صلى الله عليه وسلم من خلال تذكيره بأنه قتَل أقاربه في بدر ورماهم في القليب، فما كان منه إلا أن عاد أدراجه بعد أن شقَّ هدومه وبكى وعقر ناقته مثلما يصنع الجاهليون، ثم لم يكتفِ بهذا، بل رثى هؤلاء القتلى وأخذ يحرِّض المشركين على الثأر لهم منضمًّا بذلك إلى جبهة الشرك والوثنية ضد الإسلام، وظلَّ هكذا حتى لقِي حتفَه قبل فتح مكة.
انتظاره النبوة
لم يكتف أمية بن أبي الصلت بانتظار مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، بل عاش على أمل أن يكون هو ذلك النبي، وإن كان ثقفي الأب إلا أن أمه كانت من قريش، وتحديداً من آل عبد شمس بن عبد مناف، أبناء عمومة بني هاشم، وكان خلال ارتحاله في بلاد الشام التي غلبت عليها المسيحية، يختلف إلى الرهبان ويبدي ولعاً بسماع حكايا الكتاب المقدس، خاصة تلك التي تنبئ بمبعث نبي رسول يكون "خاتم المرسلين" وآخر الأنبياء، تمهيداً لنهاية الزمان.
ولما كانت تلك النبوءات تصف ذلك النبي المنتظر أنه من بلاد العرب، وأنه من بلد به بيت مقدس يحجّ إليه العرب، وكانت بالطائف كعبة الربة "اللات" التي يحج لها المتعبدون، فقد شطح أمية بطموحه، فرحا أن يكون هو المقصود بالنبوءة، فخلع عبادة الأصنام وارتدى مسوح الرهبان وراح يتربص الأحداث علّ أمله يتحقق، حتى أنه كان يحدث نساء قومه ثقيف بخبر ذلك النبي، وأنه هو من سيصبح خاتم الأنبياء والمرسلين.
وتذكرالروايات أنه عندما رجع أبو سفيان وأمية بن أبي الصلت، إلى مكة من تجارة لهم كانت بالشام، وراح يوزع على الناس أنصبتهم من الأموال التي بعثوها له ليتجر بها في الشام، جاءه الرسول صلى الله عليه وسلم فزاره وهنئه بسلامة رجوعه، وجالسه قليلاً، بينما هند بنت عتبة، زوجة أبي سفيان، تلاعب بعض صبيانها، فلما قام قال لها زوجها: "إن هذا ليعجبني.. الكل أتاني فسألني عن تجارته إلا هو جاء فزارني وسأل عني ولم يسألني عما بعث معي من تجارة"، فقالت له هند: "أوما تدري ما خبره؟" فسألها: "وما خبره؟" فأجابته ببساطة: "يزعم أنه نبي مرسل يتلقى خبر السماء"، فأصاب أبا سفيان فزع شديد.
وكان أمية بن أبي الصلت قد أبلغ أبا سفيان خلال رحلتهما في الشام بأمر النبي المنتظر، وأعرب له أمية عن اعتقاده في أنه سيكون نبيا.
وحينما علم أبوسفيان بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلن رسالته، ونزل عليه الوحي، ولمينزل على أمية بن أبي الصلت، راح أبو سفيان يراقب النبي ومن يتبعونه، فلما رأى اضطهاد قريش له ولأصحابه وتعذيبها إياهم، تذكر قول أمية "أكثر جنده من الملائكة"، فراح يتساءل مستنكراً وهو ينظر عذاب المسلمين: "وأين جنده من الملائكة يمنعونه؟".
ولما التقى أبو سفيان صديقه أمية بن أبي الصلت هرع يخبره أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فامتقع لون أمية ووجم، فسأله صاحبه: "أو متبعه أنت؟" فأجابه أمية وقد تعرق خجلاً: "إني لأستحي أن يراني الناس أتبع فتى من غير ثقيف، وقد كنت أجالس نساءهم وأخبرهن أنني هذا النبي"، ولما أمّن أبو سفيان على قوله قائلًا: "وأنا ما كنت لأتبع رجلاً من بني هاشم"، نظر له أمية وقال بثقة: "يا أبا سفيان لعلك إذا خالفته يؤتى بك إليه يوماً مربوطاً كالجدي يأمر فيك بما يشاء!".
وحينما دارت معركة بدر الكبرى بين المسلمين والمشركين وانتصر فيها المسلمون وقتلوا سادات قريش، فبينما كانت قريش تلعق جراحها، كان أمية بن أبي الصلت قد تخلى عن كبريائه وامتطى راحلته معتزماً التوجه للمدينة لإعلان إسلامه، فلما بلغ بدراً عند القليب الذي دُفِنَت فيه جثث قتلى قريش، لاقاه رجل يعرفه فسأله: "إلى أين المسير؟" فأجابه أمية: "إلى هذا الرجل-يعني الرسول-ألقي له مقاليد الأمور" (أي يتبعه)، فسأله الرجل منكراً: "أتدري من بالقليب؟ إن به عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما ابنا خالك"، فارتع أمية وقطع أذنيّ ناقته وذنبها (من علامات الحِداد عن العرب القدامى)، ووقف بالقليب يلقي قصيدة رثاء لمن فيه، ثم انقلب وقد رجع عن قراره اللحاق بالمدينة وإعلان إسلامه.
أساطير أمية بن أبي الصلت
اشتهر أمية بن أبي الصلت بالأساطير، فمنها أنه كان يفهم لغة الطير والحيوان، ويخاطب الجن، فذات مرة كان يمر على قطيع غنم قد انقطعت عنه شاة ومعها ابنها فنظرت له وثغت، فسأل أصحابه: "أتدرون ما تقول تلك الشاة لابنها؟ إنها تقول له: أسرع حتى لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك"، فلما سألوا الراعي قال لهم إن لهذه الشاة ابناً أكله الذئب في العام السالف.
ويوماً مر بجمل على متنه امرأة والجمل ينظر لها ويرغو فقال للقوم: "إن هذا الجمل يشكو أن في الرَحل مخيطاً (إبرة) يؤلمه"، فأنزلوا المرأة وفتشوا الرَحل (الرحل للبعير كالسرج للفرس) فوجدوا المخيط".
بل وثمة قصة أخرى عن موته تقول إنه نظر لغراب فنعب الغراب، فقال أمية لأصحابه: "إن الغراب يقول إنني أشرب كأسي هذه ثم أموت وعلامة ذلك أن الغراب يأكل من هذه المزبلة فتقع عظمة بحلقه فتهلكه"، فلما أكل الغراب من المزبلة وقف بحلقه عظمة فقتلته، فشرب أمية كأسه واتكأ فهلك.
وأما حديثه مع الجن فتقول القصة إنه كان في قافلة ومروا بأرض وجدوا بها حية فقتلوها، فبينما هم يسيرون إذ وجدوا امرأة من الجن تعاتبهم أن قتلوا جنية مسكينة وتتوعدهم بالهلاك ضياعاً في الأرض، ثم ضربت الأرض فثارت الرمال في وجوههم فتاهوا، فكلما حاولوا استئناف المسير عادت تضرب الأرض وتثير العواصف، فالتمس أمية العون فوجد رجلاً من الجن في هيئة شيخ دميم ضئيل القامة، فأخبره أمية بالأمر فنصحه الرجل: إذا لقيتموها فقل: "باسمك اللهم" سبع مرات تفر من وجهك.
فلما هاجمتهم الجنية قال لها "باسمك اللهم" سبع مرات، ففرت وهي تصيح: "تباً لكم من علمكم هذا؟!".
من شعر أمية الذي زعم أعداء الإسلام اقتباس القرآن منه
لك الحمد والنَّعماء والمُلك ربنا
فلا شيء أعلى منك جَدًّا وأمجدُ
مَليك على عرش السماء مهيمن
لعزَّته تَعنو الجِباه وتسجدُ
مليك السموات الشِّداد وأرضها
وليس بشيء فوقنا يتأوَّد
تسبِّحه الطير الكوامن في الخفا
وإذ هي في جوِّ السماء تَصَعَّد
ومن خوف ربي سبَّح الرعد حمَده
وسبَّحه الأشجار والوحش أُبَّدُ
من الحقد نيران العداوة بيننا
لأنْ قال ربي للملائكة: اسجُدوا
لآدم لما كمَّل الله خلْقَه
فخرُّوا له طوعًا سجودًا وكدَّدوا
وقال عدوُّ الله للكِبر والشقا:
لطين على نار السموم فسوَّدوا
فأخرَجه العِصيان من خير منزلٍ
فذاك الذي في سالف الدهر يحقِدُ
••••
ويوم موعدهم أن يُحشروا زُمَرًا
يوم التغابن إذ لا ينفع الحذَرُ
مستوسِقين مع الداعي كأنهم
رِجْل الجراد زفَّته الريح تَنتشِر
وأبرزوا بصعيد مستوٍ جُرُز
وأنزل العرش والميزان والزبر
وحوسِبوا بالذي لم يُحصِه أحد
منهم، وفي مِثل ذاك اليوم معتبَر
فمنهمو فرِحٌ راضٍ بمبعَثه
وآخرون عصَوا، مأواهم السَّقرُ
يقول خُزَّانها: ما كان عندكمُ؟
ألم يكن جاءكم من ربكم نُذُرُ؟
قالوا: بلى، فأطعنا سادةً بَطِروا
وغرَّنا طولُ هذا العيش والعُمُرُ
قالوا: امكُثوا في عذاب الله، ما لكمُ
إلا السلاسل والأغلال والسُّعَر
فذاك محبسهم لا يبرَحون به
طول المقام، وإن ضجُّوا وإن صَبروا
وآخرون على الأعراف قد طمعوا
بجنة حفَّها الرُّمان والخُضَرُ
يُسقَون فيها بكأس لذَّة أُنُف
صفراء لا ثرقبٌ فيها ولا سَكَرُ
مِزاجها سلسبيل ماؤها غَدِقٌ
عذبُ المذاقة لا مِلح ولا كَدَرُ
وليس ذو العلم بالتقوى كجاهِلها
ولا البصير كأعمى ما له بَصرُ
فاستخبِر الناس عما أنت جاهلُهُ
إذا عَميت، فقد يجلو العَمَى الخبرُ
كأين خلت فيهمو من أمة ظَلَمت
قد كان جاءهمُ من قبلهم نُذُر
فصدِّقوا بلقاء الله ربكمُ
ولا يصدَّنكم عن ذكْره البطرُ
••••
وقد ظنَّت طوائف المبشِّرين ممن فقَدوا رُشدهم وحياءهم أن بمستطاعهم الإجلاب على الإسلام ورسوله وكتابه بالباطل، فأخذوا يزعمون أن القرآن مسروق من شعر أمية بن أبي الصلت لهذه المشابهات، والواقع أن عددًا من كِبار دارسي الأدب الجاهلي، من المستشرقين قبل العرب والمسلمين، قد رأوا عكس هذا الذي يزعمه المبشرون، إذ قالوا بأن هذه الأشعار التي تُنسَب لأمية مما يتشابه مع ما ورد في القرآن عن خلْق الكون والسموات والأرض، وعن العالم الآخر وما فيه من حساب وثواب وعقاب وجنة ونار، وعن الأنبياء السابقين وأقوامهم وما إلى ذلك، هي أشعار منحولة عليه، قال ذلك - على سبيل المثال - تور أندريه وبروكلمان وبراو من المستشرقين، و د. طه حسين والشيخ محمد عرفة ود. عمر فروخ ود. شوقي ضيف ود. جواد علي وبهجة الحديثي من العلماء العرب، وإن كان من المستشرقين مع ذلك مَن يدَّعي أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قد أخذ بعض قرآنه من شعر هذا المتحنِّف؛ كالمستشرق الفرنسي كليمان هوار، ومنهم من قال: إن الرسول وورقة قد استمدَّا كلاهما من مصدر واحد.
ومما تقوله الروايات عن النبي وأمية أيضًا ذلك اللقاء الذي تمَّ بينه - صلى الله عليه وسلم - وفارعة أخت الشاعر أمية بن أبي الصلت حينما جاءته عند دخوله الطائف في السنة التاسعة للهجرة، وحكَت له قصة أخيها، وأَنشدتْه من شعره بناءً على طلبه، وما عقَّب به - عليه السلام - قائلاً: ((يا فارعة، إن مَثل أخيك كمَثل من آتاه الله آياته فانسلَخ منها)).