التقوى والخوف من الله وتجنب الوقوع في المعاصي حياء منه هو أعظم ثمرات الصيام ، تلك العبادة التي تجعل المسلم مراقبًا لربه في كل عمل يعمله حتى لا يقع فيما يبطل صومه ويغضب الله جل وعلا، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، هذا تعليل لكتابة الصيام ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا، وهو أنه يعد نفس الصائم لتقوى الله تعالى بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة امتثالا لأمره واحتسابا للأجر عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتقوى على النهوض بالطاعات والمصالح والاصطبار عليها فيكون الثبات عليها أهون عليه.
لتكون التقوى لكم صفة راسخة فتكونوا ممن جعلت الكتاب هدى لهم، الله سبحانه وتعالى قال في بداية سورة البقرة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، أي من سينتفع بهذا القرآن هم المتقون، ولم يرد لفظ {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} إلا في هذه الآية، والصيام طريق موصل للتقوى ومن ثَم الانتفاع والاستفادة من هداية القرآن!.. فالتقوى هي الغاية المنشودة والدرة المفقودة، وجمعت فيها خيرات الدنيا والآخرة فجعلت تحتها، وأهل التقوى هم ملوك الدنيا والآخرة، وأهل السعادة الحقيقية والشرف العظيم. لذلك يقول بعض السلف: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
الصوم يحفظ الجوارح
الصوم سبب عظيم موصل للتقوى؛ لما فيه قهر النفس وكبح جماحها وكسر شهواتها، وامتثال أمر الله واجتناب نهيه، ولأن الصائم مُقبل بكليته على الله مستثمر لخصال الخير وأعمال البر، فتكثر الطاعة ويزيد الإيمان،يقول ابن القيم: وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى، بحسب "طريق الإسلام".
فالصيام وسيلة ناجعة وطريق قصير وسبب هام ومقدمة عظيمة لتحقيق
التقوى، التي تزيل الخوف والحزن وتجلب الأمان والأنس في الآخرة، والتقوى دافع للعبد لعمل الخير واجتناب الشر. فالتقوى أنفع زاد وخير لباس، ورأس كل شيء وجماع كل خير، وصاحبها أكرم الناس، ثمراتها عظيمة ونتائجها كبيرة، فالعاقبة والفلاح والنصر لأهلها، والنور ملازم لأصحابها، والنجاة يوم القيامة ودخول الجنة لمن حققها، من فرَّط بها ندم، ومن خالف طريقها خسر خسرانا مبينا. التقوى وصية الله للناس أجمعين، يقول سبحانه: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله}[النساء:131].
يقول الحسن البصري عن المتقين: اتَّقوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَدَّوْا مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ ، وأما التقوى فحقيقتها العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً، أمراً ونهياً، فيفعل ما أمر الله به إيمانا بالأمر وتصديقا بوعده، ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالنهي وخوفاً من وعيده، كما قال طلق بن حبيب: "إذا وقعت الفتنة فاطفئوها بالتقوى" قالوا: وما التقوى؟ قال: "أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله". قال ابن القيم: وهذا أحسن ما قيل في حد التقوى.
وقال الذهبي معلقا: أبدع وأوجز، فلا تقوى إلا بعمل، ولا عمل إلا بترو من العلم والإتباع، ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله، لا ليقال: فلان تارك للمعاصي بنور الفقه، إذ المعاصي يفتقر اجتنابها إلى معرفتها، ويكون الترك خوفا من الله، لا ليمدح بتركها، فمن داوم على هذه الوصية، فقد فاز.
قال عمر بن عبد العزيز: لَيْسَ تَقْوَى اللَّهِ بِصِيَامِ النِّهَارِ وَلا بِقَيَامِ اللَّيْلِ، وَالتَّخْلِيطِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ تَقْوَى اللَّهِ تَرْكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَأَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ، فَمَنْ رُزِقَ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ إِلَى خَيْرٍ.
فمن دفعه الصيام إلى العمل بطاعة الله، وأداء ما افترض وترك ما حرم، فقد حقق الثمرة المرجوة من الصيام. قال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه ، قِيلَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَأَلَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَنِ التَّقْوَى، فَقَالَ لَهُ: أَمَا سَلَكْتَ طَرِيقًا ذَا شَوْكٍ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ؟ قَالَ: شَمَّرْتُ وَاجْتَهَدْتُ، قَالَ: فَذَلِكَ التَّقْوَى.
من كان صيامه الجوع في النهار فحسب، وإشباع البطن في الليل، وتفنن بأطايب الطعام وألوان الموائد، مبذرا ومسرفا، فهل حقق معنى التقوى؟!! شهر رمضان هو منحة ربانية للأمة الإسلامية، ومحطة من محطات مراجعة النفس والخلوة مع كتاب الله عز وجل، وحسن الالتجاء لله سبحانه وصدق التضرع، فشتان بين من يصوم عن الطعام والشراب فحسب، ومن يحقق تقوى الله ويبذل وسعه وجهده ويستغل وقته ويجتهد في طاعة الله بعيدا عن الملهيات ومضيعة الأوقات، فلا تجعل من رمضان شهر نوم وكسل وخمول.
لو اجتهد المسلم لتحصيل فائدة واحدة هي تحقيق التقوى، في شهر رمضان وبذل جهدا كبيرا لذلك لكفته فضلا وشرفا وثمرة! لأنه من لم يتق الله في
رمضان ويتعاهد قلبه ويوطن نفسه، فمتى يفعل؟!!.
علامات التقوى
ومن أبرز علامات التقوى؛ تحري
الحلال واجتناب الحرام، والحرص على مرضاة الله والتسليم لأوامره بكل صغيرة وكبيرة، والإخلاص والورع والزهد، والابتعاد عن مواطن الشبهات، والصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، وشكر النعماء. ومما يؤثر عن السلف في التقوى: يقول الحسن البصري: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام. وقال سفيان الثوري: إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى.
وقال عبد الله بن المبارك: لو أن رجلاً اتقى مائة شيء ولم يتق شيئاً واحداً، لم يكن من المتقين. وقال موسى بن أعين: المتقون تنزَّهوا عن أشياء من الحلال مخافة أنْ يقعوا في الحرام، فسماهم الله متقين.
اقرأ أيضا:
كلما رأيت الخير.. أسرع الخطى إليه اقرأ أيضا:
لماذا لا نشعر ببركة الوقت وتمر أعمارنا سريعًا؟