من أخطر الأشياء التي تهدد إيمان المرء هو اليأس، فقد يتملك اليأس من الإنسان عند مرضه أو فقره أو بعض الابتلاءات التي يبتلى بها، إلا أن هناك من يفشل في الصبر ويستسلم لليأس، وربماوالعياذ بالله للكفر.
وقد مر بعض الصحابة رضوان الله عليهم بشيئ من اليأس، حينما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت نتيجة حصار قريش لهم، ولكن سرعان ماتدارك النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحالة، وعمل على علاجها بشكل سريع، حتى لا تتفشى في صدور الصحابة.
وكانت نتيجة تفاعل النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا العارض والعمل على علاجه، والتربية الفاضلة والمتابعة الدقيقة للأحداث فور وقوعها، خرجت الجماعة المؤمنة من أزمتها بسلام، وثبت خبَّاب رضي الله عنه، وثبت المسلمون، ومرَّت الأيام الصعبة، وصارت ذكريات، وبقي الإيمان؛ بل اشتدَّ وقوي.
شدة الابتلاء
فالضغوط العنيفة التي يُعاني منها بعض الصحابة، وارتفاع حِدَّة الابتلاء، سربت اليأس إلى بعض النفوس بالفعل، وهنا كان لا بُدَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من وقفةٍ حاسمةٍ تُعالج الموضوع بدقَّة، وظهر ذلك في موقف حاسم من النبي صلى الله عليه وسلم تجاه خبَّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه عندما جاءه يطلب منه الدعاء بتحقيق النصر؛ فقد كان طلب خبَّاب رضي الله عنه شرعيًّا لا حرج فيه؛ لكن يبدو أنَّ نبرة كلامه، وطريقة تعبيره، جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفهم من الموقف أمورًا لم يُصَرِّح بها خبَّاب رضي الله عنه، وهذا دفع النبي إلى التفاعل مع الموقف بهذه الصورة التي وصفها خباب بن الأرت نفسه.
يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».
وفي رواية؛ قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا تَدْعُو اللهَ؟ فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ، فَقَالَ..إلى نهاية الحديث المذكور.
وربما نستغرب في ردِّ فعله صلى الله عليه وسلم أنه غضب! وقد تبيَّن لنا غضبه من عدَّة أمور؛ منها: تغييره لجلسته صلى الله عليه وسلم، واحمرار وجهه، وضربه بالمثل لأناس مرُّوا في ظروف أشدَّ من التي يمرُّ بها الصحابة رضي الله عنهم، وكأنه يقول لهم: أنتم ما رأيتم شيئًا بعدُ. وقَسَمَه على أن الأمر سيتمُّ، وهو لا يحتاج إلى قسم صلى الله عليه وسلم، وتصريحه بأن الصحابة تستعجل!.
اقرأ أيضا:
قصة النار التي أخبر النبي بظهورهالماذا غضب النبي؟
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم راجع إلى أنه اشتمَّ رائحة اليأس في كلام خبَّاب رضي الله عنه، وشعر بأنه ما عاد يتحمَّل، وأنه يستبطئ النصر، وأنه لا يكاد يرى النور الذي وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأتي بعد الظلمة، وكل هذه أدواء خطيرة للغاية، وهي -كما ذكرتُ- أمراض معدية، وقد وضح من الرواية الأولى أنَّ خبَّابًا قال: «شكونا... قلنا...». فهذا يعني أنهم كانوا مجموعة، وكان خبَّاب رضي الله عنه يتحدَّث عنهم؛ فالأمر إذن يحتاج إلى وقفة حاسمة.
وقد علمنا ربنا سبحانه وتعالى أن النصر من عند الله، وإننا لا نختار وقت النصر، ولا نفرض على الله عز وجل وقتًا معيَّنًا يرفع فيه البلاء عنَّا، بل الأصل أنه هو سبحانه الذي يُحَدِّد لنا كيف نعبده، وقد علَّمنا كيف نعبده في الضرَّاء بالصبر، وكيف نعبده في السرَّاء بالشكر، وهو سبحانه وتعالى لا يَعْجَل بعَجَلَة عباده، إنما يفعل ما يراه خيرًا لهم، وهو لا يُسْأل عمَّا يفعل، بينما البشر يُسْأَلون.
فينبغي للمسلم أن يعرف حدود العلاقة بيننا وبين الله عز وجل وهي واضحة جدًّا.
دروس تربوية
وقد أوصل النبي صلى الله عليه وسلم رسالته واضحة إلى خبَّاب وإخوانه رضي الله عنهم في هدوء رغم انتباهه لخطورة الموقف، وغضبه، وكشف لنا موقف النبي كيف يتعامل المسلم مع هذه الأزمات من خلال هذه الدروس التربوية:
1/تعظيم قدر الله عز وجل في القلوب، ومعرفة العلاقة السويَّة بين العبد والربِّ؛ فهي علاقة طاعة وتسليم دون ضجر أو تأفُّف، فيُقْسِم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل سيُتِمُّ أمرَ الإسلام، ويُعِزُّ الدين، وينشر الأمن في البلاد، ويُوَسِّع في أملاك المسلمين حتى تدخل فيه اليمن من شرقها إلى غربها؛ ولكنَّ كلَّ ذلك في الوقت الذي يُريده سبحانه وتعالى، دون نظر إلى عجلة عباده أو قلَّة صبرهم، كما يُبَيِّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المؤمن في حال التمكين يظلُّ محتفظًا بتوقيره وتقديره لله عز وجل؛ فمع انتشار الأمن والأمان، ومع اتساع المُلك والسلطان فإن الرجل المسلم يسير ولم يَذْهب الخوف من الله من قلبه: «لا يَخَافُ إِلَّا اللهَ». فهذه علاقة مستمرَّة عند أصحاب الإيمان العميق.
2/ زرع الأمل في قلب خبَّاب رضي الله عنه ومَنْ معه من المستضعفين، فيُقْسِم -ولا يحتاج إلى قسم صلى الله عليه وسلم- ولكن ليزرع هذا المعنى زرعًا في قلوب المظلومين؛ هذا الأمر لا بُدَّ له من تمام، وهذا الدين لا بُدَّ له من اكتمال، وهذه الأُمَّة لا بُدَّ لها من بناء.
3/ استدعاء النبي للتاريخ لأخذ العبرة والعظة، واختار موقفًا مشابهًا لحالتهم، ووضَّح لهم مدى صبر المؤمنين سابقًا، وكانوا من البشر مثلنا، فإذا تحمَّلوا هذه الآلام فنحن نقدر على هذا التحمُّل، وإذا ثبتوا في مثل هذه المواقف فلن نُعْذَر نحن إذا تنازلنا، وإذا انتظروا الفرج حتى أتى الله به في الوقت الذي يُريد، فلن يُقْبَل منَّا أن نستعجل.
4/ كلام النبي لم يكن من كونه يعيش في عالم مختلف عن الذي كان يحيا فيه الصحابة بل كان يعيش نفس ظروفهم من الحصار والظلم، وتعرَّض معهم للإيذاء المعنوي والجسدي، وعانى هو وأهله من معاناة الجنود نفسها، فكان الكلام مقنعًا جدًّا، ووقعت الكلمات في قلب خبَّاب رضي الله عنه، وآتت أكلها بسرعة؛ لأنَّها تخرج من قلبٍ صادقٍ إلى قلبٍ صادق.
فنِعْمَ المعلِّم، ونِعْمَ المتعلمين!
هل تدري ما حدث لخباب وتقارن بين ابتلاءك وابتلاءه؟
كان خباب يُعَذَّب بالإلقاء على الفحم الملتهب! .
وعَنْ خَبَّابٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُضْطَجِعٌ تَحْتَ شَجَرَةٍ، وَاضِعٌ يَدَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَدْعُو اللهَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَدْ خَشِينَا أَنْ يَرُدُّونَا عَنْ دِينِنَا؟ فَصَرَفَ عَنِّي وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ أَقُولُ لَهُ فَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِّي، فَجَلَسَ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ وَاصْبِرُوا، فَوَاللهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَ المُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ لَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَرْتَدُّ عَنْ دِينِهِ، اتَّقُوا اللهَ، فَإِنَّ اللهَ فَاتِحٌ لَكُمْ وَصَانِعٌ».
أمر النبي صلى الله عليه وسلم خبَّابًا رضي الله عنه بالتقوى والصبر، وبشَّره بالفتح والنصر، ولقد علا تحذيره في هذه المرَّة حتى لا يستسهل الصحابة هذه الشكوى، فتُصبح عادة عندهم، وهذا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفضه، ويخشى من شيوعه بين المؤمنين.