وأنت تسير في دروب اليأس والضيق، قد تأتي إحدى النفحات الربانية التي تهون عليك يأسك، من خلال لافتة بسيطة تنكشف لك في حال من هو أكثر منك ضيقًا وابتلاءً، كأن ترى رجلاً يسير في الطريق على قدم واحدة، وربما بدون قدمين ولا يدين، وما أكثرهم، أو أعمى ينتظر من يأخذ بيديه لتجاوز وعثاء الطريق، أو مريضًا نهش المرض في جسده نحولاً، أو فقيرًا يبيت في أحلك ليالي الشتاء دون غطاء أو طعام يولد في جسده المرتعش الحرارة اللازمة لمواجهة البرد القارس.
في هذا التوقيت تتذكر المثل الشعبي الدارج: "من رأى بلوة غيره هانت عليه بلوته"، فالبـلاء سُنَّة الله الجارية في خلقه؛ فهناك من يُبتلى بنقمة أو مرض أو ضيق في الرزق أو حتى بنعمة، فقد كتب الله على كل إنسان نصيبه من البـلاء؛ قال تعالى {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2,3] .. فمنهم من سيفهم حكمة الله تعالى في ابتلاءه، فيهون عليه الأمر .. ومنهم من سيجزع ويتسخَّط، فيزداد الأمر سوءًا عليه .
أشد الناس بلاءً الأنبياء
فما بالك وانت ترى ابتلاءات في الحياة الدنيا، ببلاء الأنبياء، الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: "أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، فما بالنا أيضا ببلاء النبي صلى الله عليه وسلم، الذي لقى من قومه أشد أنواع الابتلاء.
فعن مَنبِت الأزدي قالَ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وهو يقول: «يا أيها النّاس! قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا». فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثا عليه التراب، ومنهم من سبَّه حتى انتصف النهار. فأقبلت جارية بِعُس [أي قدح كبير] من ماء، فغسل وجهه ويديه وقالَ: يا بُنيَّة! لا تخشَي على أبيك غيِلة ولا ذلة. فقلتُ: من هذه؟ قالوا: زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن عروة رضي الله عنه قالَ: سألت ابن العاص رضي الله عنه فقلت: أخبرْني بأشدِّ شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم. قالَ: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حِجْر الكعبة إذ أقبل عليه عقبة بن أبي مُعَيط، فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالَ: ( أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ) [سورة المؤمن: 28] .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قالَ: لقد ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة حتى غشي عليه، فقام أبو بكر رضي الله عنه فجعل ينادي: ويلَكم! أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، فقالوا: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر المجنون، فتركوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قالَ: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وأبو جهل بن هشام وشيبة وعتبة ابنا ربيعة وعُقبة بن أبي مُعَيط وأُمية بن خلف ورجلان آخران كانوا سبعة وهم في الحِجر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فلما سجد أطال السجود. فقالَ أبو جهل: أيُّكم يأتي جزور بني فلان فيأتينا بفَرْثِها فنكفؤه على محمَّد، فانطلق أشقاهم عقبة بن أبي مُعَيط فأتى به فألقاه على كتفيه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد، قال ابن مسعود: وأنا قائم لا أستطيع أن أتكلم، ليس عندي منعة تمنعني فأنا أذهب، إذ سمِعتْ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت حتى ألقت ذلك عن عاتقه، ثمّ استقبلت قريشًا تسبُّهم فلم يرجعوا إليها شيئًا.
– عن ربيعة بن عُبيد الدِيلي قالَ: ما أسمعكم تقولون إن قريشًا كانت تنال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أكثر ما رأيت أن منزله كان بين منزل أبي لهب وعُقبة بن أبي مُعَيط ؛ وكان يتقلب إلى بيته فيجد الأرحام والدماء والأنحات [الرديء من كل شيء] قد نصبت على بابه فيُنحِّي ذلك بسِيَة قوسه ويقول: «بئس الجوار هذا يا معشر قريش» .
اقرأ أيضا:
نساء خطبهن النبي ولم يتزوج بهنبلاء النبي
و عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: ومات أبو طالب وازداد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة، فعمد إلى ثقيف يرجو أن يؤووه وينصروه، فوجد ثلاثة نفر منهم سادة ثقيف وهم إخوة: عبد يا ليل بن عمرو، وخُبيب ابن عمرو، ومسعود بن عمرو؛ فعرض عليهم نفسه وشكا إليهم البلاء وما انتهك قومه منه.
فقالَ أحدهم: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك بشيء قط. وقالَ الآخر: والله! لا أكلمك بعد مجلسك هذا كلمة واحدة أبدًا، لئن كنتَ رسولًا لأنت أعظم شرفًا وحقًا من أن أكلمك. وقالَ الآخر: أعَجَزَ الله أن يرسل غيرك؟… وأفشَوا ذلك في ثقيف الذي قالَ لهم، واجتمعوا يستهزئون برسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدوا له صفين على طريقه، فأخذوا بأيديهم الحجارة، فجعل لا يرفع رجله ولا يضعها إلاَّ رضخوها بالحجارة وهم في ذلك يستهزئون ويسخرون.
فلمَّا خلص من صفَّيْهم وقدماه تسيلان الدماء عمد إلى حائط من كرومهم، فأتى ظل حُبْلة من الكرم فجلس في أصلها مكروبًا موجعًا تسيل قدماه الدماء، فإذا في الكرم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، فلمَّا أبصرهما كره أن يأتيهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله وبه الذي به، فأرسلا إليه غلامًا عدَّاسًا بعنب وهو نصراني من أهل نِينوى.
فلما أتاه وضع العنب بين يديه، فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله»، فعجب عداس؛ فقالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أي أرض أنت يا عدّاس؟» قالَ أنا من أهل نينوى. فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «من أهل مدينة الرجل الصالح يونس بن متَّى؟» فقالَ له عداس: وما يدريك مَنْ يونس بن متَّى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن يونس ما عرف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحدًا يبلِّغه رسالات الله تعالى، فقالَ عداس: يا رسول الله! أخبرني خبر يونس بن متَّى.
فلما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن يونس بن متَّى ما أُوحي إليه من شأنه خرّ ساجدًا للرسول صلى الله عليه وسلم، ثمّ جعل يقبِّل قدميه وهما تسيلان الدماء. فلما أبصر عتبة وأخوه شيبة ما فعل غلامهما سكتا. فلما أتاهما قالا له: ما شأنك سجدت لمحمّد وقبلت قدميه ولم نرك فعلت هذا بأحد منا؟. قالَ: هذا رجل صالح حدثني عن أشياء عرفتها من شأن رسول بعثه الله تعالى إلينا يُدعى يونس بن متَّى، فأخبرني أنه رسول الله؛ فضحكا وقالا: لا يفتنْك عن نصرانيتك، إنه رجل يَخدع؛ ثمّ رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة) .
وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليكَ يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قالَ صلى الله عليه وسلم: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلاّ وأنا بقَرْن الثعالب [موضع قريب من مكة] فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيها جبرائيل عليه السلام فناداني فقالَ: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يُخرج الله عزّ وجلّ من أصلابهم من يعبد الله عزّ وجلّ وحده لا يشرك به شيئًا» .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم دعاءه المضطر: «اللهم! إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على النّاس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملَّكتَه أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، ولكنَّ عافيتك هيِ أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك، أو يَحِلَّ عليَّ سَخطُك، لك العُتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلاّ بك».