تحدثنا في المقال السابق عن أنواع التراكمات في الحياة الزوجية، وتنوعها ما بين تراكمات يغلب عليها الإيجابية، وأخرى سلبية، وثالثة خليط ما بين هذا وذاك.
وعبر السطور التالية سنتحدث عن الظروف والأحوال التي ترجح تكوّن التراكم السلبي للمشاعر لدى أحد الأطراف في الحياة الزوجية، أو كليهم، ا نذكر منها:
1 – ضعف القدرات والمهارات
فقد وجد أن الأشخاص الأقل ذكاء والأقل ثقافة والأقل في المهارات الاجتماعية والأقل تدينا والأقل ثقة بالنفس والأكثر فقرا, والأشخاص الاعتماديين السلبيين, والأشخاص الأكثر احتياجا للتقدير والتعاطف, كل هؤلاء يكونون أكثر عرضة لتراكم المشاعر السلبية في علاقاتهم الزوجية وحتى في علاقاتهم الاجتماعية, لأنهم يكونون في حاجة شديدة للآخر ولتقديره ولرضاه وفي نفس الوقت ليست لديهم المهارات الكافية للحصول على ذلك فيقعون في دائرة الإحباط التي تؤدي بهم إلى الغضب, وحين لا يجدون منصرفا للغضب (أو هم لا يملكون مهارات تصريف الغضب) فإنه يتحول إلى غضب مكتوم أو مخزون أو غير منصرف وهو ما نسميه "الحنق", وهذا الحنق يمكن أن يتحول إلى رغبة في العدوان على الآخر أو إلى عدوان فعلي, وقد يكبت كما ذكرنا ويترك آثارا نفسية وجسدية كثيرة.
وبعبارة أخرى نقول بأن الطرف الضعيف أكثر قابلية لتراكم مشاعر الإحباط والقهر واليأس والغضب والعدوان من الطرف القوي المسيطر, ولذلك يكون انتقام هذا الطرف الأضعف مفاجئا ومدويا أحيانا لأنه حصيلة تراكم سنوات طويلة تحت السطح حتى إذا وصل الضغط الداخلي إلى مرحلة حرجة خرج العدوان كالبركان أو الطوفان, ولهذا نحذر دائما في العلاقات الزوجية (وفي العلاقات الإنسانية عموما) من انتقام الضعيف نظرا لما لديه من مخزون غضب وعدوان متراكم.
2 – الاستبداد والطغيان
ويزيد من احتمالات التراكم السلبي أن يكون الشريك الآخر مستبدا طاغيا قاهرا كاتما لأي تعبير انفعالي من الطرف الآخر ومحاولا إلغائه وقمعه تحت أي دعوى أو مسمى, وهنا يفقد الطرف المقهور أي فرصة للتعبير عن مشاعره ويضطر اضطرارا إلى اختزانها.
3 – فقد الخيارات
وقد تلعب البيئة المحيطة دورا مهما في زيادة التراكم السلبي حين يفقد الطرف المقهور والمكبوت خياراته ويجد نفسه في طريق مسدود, فمثلا الزوجة التي يقهرها ويظلمها زوجها ولا تجد مخرجا منه فليس لها مكان آخر تذهب إليه أو أنها مضطرة للاستمرار معه من أجل الأولاد, أو تخشى مواجهة الحياة كمطلقة, ويزيد الطين بلة حين يستغل الطرف القاهر المستبد الظالم هذا الوضع فيبالغ في ظلمه وأهانته لها.
4 – فشل الاستيعاب المعرفي
عدم قدرة أحد الأطراف أو كليهما على استيعاب الخبرات الحياتية المؤلمة في المنظومة المعرفية, وهذا يجعل كل مشكلة حياتية عادية تتحول لأزمة وتأخذ أكبر من حجمها وتستغرق أكثر من الوقت المتوقع لها, وتحدث آثارا واسعة النطاق على الحياة الزوجية والحياة النفسية. ويدخل في ذلك ما نسميه بالتقدير المعرفيCognitive Appraisal للأحداث, فنحن لا نتأثر بالحدث كحدث مجرد وإنما نتأثر به حسب تقديرنا المعرفي له, فهناك شخصان يواجهان نفس المشكلة ولكن يتأثر كل شخص منهما بحسب تقديره لحجم المشكلة وخطورتها.
5 – ضعف القدرة على السماح
وضعف هذه القدرة أو غيابها يجعل كل خطأ أو حدث مؤلم مضافا إلى مخزون الأخطاء والأحداث المؤلمة السابقة دون وجود فرصة لتطهير النفس من هذه التراكمات. ونظرا لأهمية هذا المفهوم في الحياة الزوجية سنتحدث عنه بتفصيل بعد قليل.
6 – الانفراد
بمعنى أنه لا يوجد طرف ثالث بين الزوجين, وهنا ينفرد الطرف الأقوى بالطرف الضعيف فيذله ويهينه ويخنقه, ولا يجد الطرف الضعيف ملاذا غير كتمان غضبه وعدوانه, والطرف الثالث هنا قد يكون الله (لدى الأزواج المتدينين) أو تكون الأسرة أو أحد الأصدقاء, أو الأبناء, أو الجيران, أو هيئة أو مؤسسة حكومية أو غير حكومية, والطرف الثالث هنا يلطف من مشاعر العدوان ويضع قواعد للتعامل ويفصل في الخصومات ويصفيها ويفتح مسارات للغفران والتسامح.
3 – وجود طرف ثالث: يسمع الشكوى ويفصل بين الطرفين ويعطي كل ذي حق حقه. وقد يكون هذا الطرف الثالث من الناس المحيطين, أو يكون هذا الطرف الثالث هو الله يلجأ إليه الطرف المظلوم بالشكوى وينتظر منه الفرج والرحمة أو القصاص من الطرف الظالم, والثقة في عدل الله وقدرته على القصاص في الدنيا والآخرة تعطي راحة للطرف المقهور وقدرة أكثر على الاستمرار.
4 – السماح: وهو يعني أن تنسى الإساءة ولا تعاقب عليها ولا يبقى بداخلك غضب بسببها. وهو قدرة يمتلكها بعض الناس حيث يمكنهم نسيان الإساءات والتغاضي عنها واستمرار التعامل الإيجابي مع الطرف المسيء بناءا على اعتبارات إنسانية أو دينية تسهل نسيان الإساءات والقدرة على فتح صفحات جديدة في الحياة, وإغلاق ملفات وفتح ملفات حسب الظروف المحيطة وحسب التقدير الشخصي وحسب المعتقدات الدينية والاجتماعية, وهو علاج للذاكرة المرضية (الرغبة في الانتقام) والتي تعني التثبيت على الحدث وعدم القدرة على تجاوزه, والدوران في دائرة مغلقة عقليا وانفعاليا.
وهناك أشياء لازمة لزيادة القدرة على السماح نذكر منها توقف الخبرات المؤلمة أو حدوثها على فترات بحيث تعطي فرصة لالتقاط الأنفاس واستعادة التوازن, واستعادة القدرة على التعامل مع العواقب والآثار, مع وجود شبكة للدعم والمساندة, وإمكانية استيعاب الخبرة المؤلمة في المنظومة المعرفية, مع تصور إيجابي للكون وللحياة, وتصور واقعي للإنسان على أنه مخلوق يصيب ويخطئ وهو في كل ذلك ليس شيطانا ولا ملاكا.
وهناك ظروف وأحوال يفشل فيها التسامح أو تقل احتمالاته نذكر منها: استمرار التهديد واستمرار الضغوط, أو زيادة الضغوط عن القدرة والاحتمال, أو غياب شبكة المساعدة, أو عدم القدرة على استيعاب الأحداث المؤلمة في المنظومة المعرفية, أو عدم القدرة على إعطاء معنى للأشياء المؤلمة, أو غياب مسارات التنفيس أو انسدادها, أو غياب مسارات لتحقيق الذات والإنجاز.
والتسامح مفيد للشخص ذاته إذ يطهر نفسه من مشاعر الحقد والغضب والانتقام ويحمي الجسم من ارتداد هذه المشاعر وإيذائها له، وهناك على المستوى الديني ما يعلي من قيمة التسامح ويشجع عليه كقوله تعالى في القرآن الكريم: "الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران: 134), وقوله: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ " (الأعراف: 199), وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كظم غيظه وهو قادر على إنفاذه زوجه الله من أي الحور العين شاء".
والمتسامحون غير الماسوشيين (الذين يستعذبون الألم والعذاب), فالمتسامحون لا يرغبون في الألم ولا يستعذبونه ولكن لديهم رؤية وفلسفة تدفعهم للتغاضي عن الزلات ونسيانها وتنظيف جهازهم النفسي منها, أما الماسوشيون فلديهم مشاعر عميقة بالذنب ويشعرون أن إيلامهم وقهرهم يطهرهم من ذنوبهم, أو أن لديهم اعتقادا بأن اللذة لابد وأن يسبقها ألم, وهذا الموقف الماسوشي أقرب ما يكون إلى المرض.
وأحيانا يتم تحويل الانتقام (إزاحته) إلى طرف ثالث, وأكثر طرف مهيأ لهذا التحويل هم الأطفال فالأم المحبطة في علاقتها الزوجية أكثر قابلية لضرب أبنائها وإيذائهم وقد تصل في ذلك إلى درجات شديدة وخطرة من الإيذاء رغم أنه لا يوجد مبرر ظاهر لذلك (وكذلك الأب المحبط المهزوم قد يتوجه بعدوانه نحو الأبناء), أو قد يتحول العدوان لأشياء كأن تكسر الزوجة الغاضبة فازة أو نجفة أو أي شيء في البيت, وقد يفعل الزوج الغاضب مثل ذلك أو أكثر منه.
وقد يصل تحويل العدوان إلى درجة قتل الأبناء أو البنات, كما حدث مع الزوج المقهور الضعيف حين قتل ستة من بناته وأفلتت منه السابعة بسبب خلافات مزمنة بينه وبين زوجته. وبعض الناس يعممون الغضب والعدوان فنجدهم في كل تعاملاتهم مع الناس يتسمون بالقسوة والعنف بلا مبرر واضح. وبعض الأزواج قد ينتقم بالخيانة, والبعض الآخر قد يسترد كرامته ومكانته بمزيد من النجاح والإنجاز بهدف تجاوز إيذاء الطرف المعتدي.
2 – العنف اللفظي: ويبدأ في صورة انتقاد مستمر للطرف الآخر أو لوم أو سخرية لاذعة أو نكات أو تعليقات جارحة ويصل في النهاية إلى السب والقذف.
3 – العنف الجسدي: مثل الدفع واللطم واللكم والركل . ولوسائل العنف الجسدي دلالات هامة فمثلا الصفعة تعني ردا لجرح كرامة أو شرف, بينما اللكمة تعني رغبة في التدمير, في حين أن الركلة تعني الإهانة والاحتقار والإذلال.
وقد وجد أن 20 – 50% من النساء يتعرضن للعنف بشكل منتظم في حياتهن, وعلى الجانب الآخر وجد أن 23% من الزوجات يضربن أزواجهن. ومن المفترض أو من الواجب أن نرصد مظاهر التراكم السلبي للمشاعر ونرصد بدايات ظهور العنف قبل أن تستفحل وتتحول إلى عنف جسدي ربما يصل إلى القتل, ولا يخدعنا وجود الحب فنطمئن لغياب الخطورة, فقد وجد أن 30% من النساء اللائي متن قتلا كان ذلك بواسطة شخص محب (زوج حالي أو زوج سابق أو حبيب أو صديق).
اقرأ أيضا:
هذه الطريقة تجعلك تخسر كل من تتعامل معه.. ابتعد عنهااقرأ أيضا:
لا أطيق زوجي في الفراش وأفكر في الانتحار.. ما الحل؟