"كان طفلاً هادئاً مطيعاً مسالماً متفوقاً في دراسته ومحبوباً من أبويه ومن كل أفراد العائلة حيث يصفونه بأنه أكثر نضجاً وأقل مشاكل مع إخوته، وكان وجهه السمح الطيب يدعو للاقتراب منه، فإذا اقتربت وجدت عقلاً منظماً يزينه التزاماً أخلاقيا جميلاً. وقد ظل الأمر على هذا الحال حتى وصل إلى سن الرابعة عشرة من عمره فأصبح كثير العزلة، كثير القراءة سهل الاستثارة، ولديه رغبة للنوم ساعات طويلة على غير عادته
.. وزادت تساؤلاته في النواحي الدينية خاصة في مسائل الربوبية والألوهية والوحي وحقيقة الغيب؛
وكانت تساؤلاته مسكونة بكثير من الشكوك في المعتقدات السائدة حول هذه الأمور، وذلك مما أصاب والديه بانزعاج شديد خاصة وأن الأسرة لديها ميول دينية قوية، ومما زاد من انزعاجها توقفه عن أداء الصلاة وباقي العبادات لفترات طويلة، وإذا أداها فهو يفعل ذلك بتراخ شديد وتحت ضغط وإلحاح من الأبوين
".
هذا نموذج لحالة من حالات القلق الديني لدى
المراهقين وهى مرحلة يمر بها الكثير من المراهقين، ولكن تختلف شدتها من شخص لآخر وأيضا تداعياتها ومضاعفاتها، ويتوقف ذلك على شخصية المراهق وعلى البيئة المحيطة به، فإذا كانت الشخصية متوازنة نسبياً، وكانت البيئة متقبلة ومتسامحة وراعية ومساندة فإن هذه المرحلة تمر سريعاً وبسلام وبدون تداعيات خطيرة ويصل المراهق في نهايتها
(في سن السابعة عشرة إلى العشرين
) إلى حالة من الاستقرار النسبي الذي يترسخ مع العمر، أما إذا كانت الشخصية مضطربة أو البيئة المحيطة مضطربة
(أو الاثنان معاً
) فإن مظاهر هذه الأزمة الدينية تستمر حتى مراحل متأخرة من العمر.
والسؤال الآن: لماذا يحدث هذا القلق الديني لدى المراهق (أو المراهقة)؟
والجواب يمكن اختصاره في النقاط التالية :1- النمو السريع غير المتوازن
ففي هذه المرحلة يحدث
نمو جسدي وجنسي ونفسي واجتماعي وروحي، ولكن هذه الجوانب لا تنمو كلها بشكل متوازن بالضرورة فبعضها يكون أسرع أو أقوى من الآخر وهنا يشعر المراهق بالارتباك والحيرة حيث يجد نفسه قد نما جسدياً بشكل سريع فأصبح مثل الرجال شكلاً وحجماً ولكنه نفسياً وروحياً مازال طفلاً وهذا يحدث له خللاً داخلياً وخللاً اجتماعياً.
2- الانتقال من التفكير العيني المرتبط بالمحسوسات إلى التفكير التجريدي القادر على التعامل مع الرموز ومع المعاني المجردة:
. وفي هذه الفترة الانتقالية يتخلى المراهق عن المسلمات والمعتقدات الدينية التي أخذها عن والديه، ولكنه في نفس الوقت لم يكون بعد مفاهيم ومعتقدات خاصة به باستخدام قدراته العقلية التجريدية وهنا تحدث فجوة ربما تستمر عدة شهور أو عدة سنوات وخلال هذه الفترة يعانى المراهق من حالة من الخلخلة وعدم الاتزان في الجانب الديني وربما تساوره بعض الشكوك أو حتى يصل إلى حالة من إنكار الثوابت التي تلقاها من والديه ومن مجتمعه لفترة من الوقت، ولكنه
-في الأحوال الطبيعية
- يعود إلى توازنه مرة أخرى مع نهاية فترة المراهقة.
3- الصراع بين القوى الغريزية والقوى الروحية:
ففي هذه المرحلة تتفجر هاتين القوتين بعنف فالجسد ينمو وتنمو معه الوظائف الغريزية، والقدرات المعرفية تتطور وتصبح قادرة على التعامل مع الرموز والمعاني المجردة أي قادرة على التواصل مع عالم الغيب ومع عالم الروح، وهاتين القوتين تتجاذبان المراهق بينهما فيجعلانه في حالة من التوتر والتردد بينهما، وربما يحاول التخلص من هذه الحالة فيتنكر لأحد القوتين لحساب الأخرى فنجده مثلاً ينكر الغيبيات والروحانيات تماماً وينغمس في الملذات الحسية، أو يتجه عكس ذلك تماماً فيكبت غرائزه بشدة ويعيش حالة من الزهد والتبتل والصفاء الروحي، أو تتبدل هذه الأحوال من وقت لآخر ويعيش المراهق في حالة من التقلبات الحادة.
4- الصراع بين المثالية والواقعية:
فالمراهق تتكون لديه نزعات مثالية فيتعلق تعلقصا شديدًا بالقيم المطلقة مثل الصدق والحق والعدل والجمال، ويتخيل أن العالم محكوم بهذه القيم العليا، ولكن حين يتعامل مع الكبار في واقع الحياة، تحدث له صدمة أو صدمات، حيث يجد أن هذه القيم المطلقة غير موجودة بالقدر الذي تخيله، وأن الكبار يتعاملون بقيم نسبية فيها استثناءات كثيرة وتجاوزات لا يستطيع ميزانه القيمي أن يتحملها، لذلك يفقد الثقة في الكبار وربما اتهمهم بالنفاق والخداع والكذب، وهكذا تحدث فجوة بينه وبينهم، تلك الفجوة بين القيم المعلنة والقيم السائدة، فهو يسمعهم يتغنون بقيم عظيمة في المدرسة والمسجد ووسائل الإعلام، ولكنه يرى أشياء أخرى في التعامل اليومي الواقعي. هذه الفجوة ربما تصل به إلى درجة العزلة والحزن والإحباط والانسحاب من المجتمع،
وإذا حدث في هذه الحالة أن وقع هذا المراهق فريسة لمجموعة تلوح له بتبنيها للقيم المطلقة فإنه سرعان ما ينقاد لهذه المجموعة ويصبح عضوًا مخلصًا فيها، وربما يتورط معها في أعمال ضد المجتمع الذي يرونه بعيدًا عن قيمهم التي يعتقدونها، ولكنه بعد فترة من الوقت يكتشف أن هذه المجموعة
(أو الجماعة
) تعيش هي الأخرى بقيم نسبية نفعية، ربما أكثر نفعية من تلك القيم التي رفضها في المجتمع الأوسع، فينشق عنها ويعود أدراجه إلى الواقع محبطاً، ويصبح في مفترق طرق، فإما أن يجيد لعبة الواقع بقوانينه التي يرفض بعضها أو أكثرها وفي هذه الحالة يتخلى عن مثالياته ونقائه الأخلاقي كما يتصوره ، أو أن ينعزل عن مجرى الحياة اليومية لكي يظل محتفظاً بتصوراته وقيمه ويصنع عالمه الخاص به بينه وبين نفسه، أو يختار طريقاً توفيقياً بين هذا وذاك فينخرط في الواقع ويتكيف مع قوانينه، وفي نفس الوقت يحتفظ بحلمه في الارتقاء بنفسه وبذلك الواقع إلى آفاق أفضل، وذلك من خلال التفاعل الإيجابي مع ذلك الواقع بالطرق المشروعة والآمنة،
وهذا الخيار الأخير هو الأكثر نضجاً حيث يصل المراهق إلى قناعة بأن الأمور في الحياة اليومية تسير بقيم نسبية، وأن البشر مهما تسامت أخلاقهم ومهما بلغ التزامهم الديني فهم معرضون للخطأ بحكم تكوينهم وضعفهم البشرى، وأن الله قد شاءت حكمته أن يختلف البشر في أهدافهم ووسائلهم ولو شاء لجعلهم أمة واحدة، وأن الحياة حتى في عصور الأنبياء كانت تحوى عناصر الخير والشر، وفي النهاية يكتشف المراهق أن الصراع بين الخير والشر الذي ظل يؤرقه لسنوات لم يكن في المجتمع الذي يعيش فيه وإنما هو صراع بالأساس داخل نفسه هو وأن عليه أن يدير هذا الصراع بكفاءة وأمان حتى نهاية حياته لكي يصل إلى مستوى النفس المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضية مرضية.
أما عن دور "الوالدين" في هذه الأزمة، فيتلخص في الصبر ، والانتظار ، والجاهزية للدعم والمساعدة حين يطلبها المراهق المتأزم، وأن يكونا على يقين بأنها مرحلة وتمر بسلام ويعود الابن
(أو البنت
) إلى حالة التوازن والطمأنينة مرة أخرى.
وفي حالات قليلة جدًا تحدث بعض المضاعفات مثل القلق المرضى، أو الاكتئاب، أو بعض الأعراض الذهانية ذات الصيغة الدينية، وهنا يلزم الأمر العرض على طبيب نفسي لتقديم المساعدة المتخصصة وعلاج الأعراض المرضية سواء بالدواء أو العلاج النفسي.
د.محمد المهدي
أستاذ الطب النفسي - جامعة الأزهر
* بتصرف يسير
اظهار أخبار متعلقة
اظهار أخبار متعلقة