بالرغم من أن الكبار يقولون أشياء مثل: "كان صغيرًا جدًا عندما حدث ذلك؛ إنه لن يتذكرها عندما يكبر"، فإنه يمكن أن يكون لصدمة الطفولة تأثير مدى الحياة. ورغم أن الأطفال يتمتعون بدرجة مرتفعة من التحمل والصمود والمرونة، إلا أنهم ليسوا مصنوعين من الحجر، والفروق الفردية في التكيف مع الحدث تلعب دورا لابد من تفهمه.
فالصدمة والإساءة التي يمكن أن يتعرض لها الأطفال وصغار المراهقين وهم فئة ومجموعة معرضة لمواقف ضاغطة وأحداث صدمية نظرا لضعف مهاراتهم التكيفية الناشئة وخبراتهم في الحياة التي ربما تكون محدودة، وبالتالي يمكن للصدمات والإساءات التي يتعرض لها الأطفال أن يكون لها تأثيرات سلبية ممتدة على تكوينهم النفسي، كما أن الأطفال ربما يتعرضون للإساءات من ذويهم والقائمين على رعايتهم، مما يستوجب البحث في طرق تعافيهم من هذه الندوب التي قد تعوق نموهم وتكيفهم وجودة حياتهم.
ويُنظر إلى اضطراب كرب ما بعد الصدمة Posttraumatic stress disorder PTSD باعتباره مشكلة نفسية يمكن أن تؤثر على الأفراد من جميع الأعمار. والطفل المصاب باضطراب كرب ما بعد الصدمة يكون لديه أفكار وذكريات مخيفة عن حدث سابق، وقد تبدأ أعراض اضطراب كرب ما بعد الصدمة بعد وقت قصير من وقوع حدث صدمي أو قد لا تحدث لمدة 6 أشهر أو أكثر. فما هو الحدث الصدمي؟ وما الأعراض المرضية المحتملة عقب هذا الحدث؟ وما الذي يجعل بعض الأطفال يطورون اضطراب كرب ما بعد الصدمة؟
الحدث الصدمي
تبدأ هذه التجربة بوقوع الحدث الصدمي حيث قد يكون:
- شيء ما حدث للطفل.
- أو شيء ما حدث لشخص قريب من الطفل.
- أو شيء رآه الطفل.
ومن أمثلة ذلك: الحوادث مثل حادث السيارة أو القطار، ولدغات الحيوانات، والكوارث الطبيعية مثل الفيضانات أو الزلازل، والحوادث من صنع الإنسان، مثل التفجيرات bombings، والاعتداءات الشخصية العنيفة، مثل: السلب أو الاغتصاب أو التعذيب أو الاختطاف والاعتداء الجسدي والاعتداء الجنسي والإساءة الجنسية والإساءة العاطفية أو التنمر أو الإهمال، وكذلك المشكلات الطبية مثل: مشاكل القلب والسرطان والسمنة.
هذا يعني أن مجرد المرور بتجربة مزعجة لا يجعلها مؤلمة. فطلاق الوالدين، على سبيل المثال، من المحتمل أن يؤثر على الطفل ولكنه ليس بالضرورة يكون صدميًا. إنما يتوقف الأمر على كيف يدرك الفرد هذا الحدث فإدراك الطفل للأحداث لا يقل أهمية عما حدث بالفعل. فرغم أن حياة الطفل في حدث ما قد لا تكون في الواقع معرضة للخطر، لكن قد يكون الطفل قد رأى وأدرك أنها تهدد حياته. فالأمر متعلق بالافتراضات التي تم هدمها في حياة الطفل، فعندما يهدم افتراض أنا آمن، والعالم من حولي آمن، ليصير العالم غير الآمن، أنا في خطر، فهذا الإدراك الداخلي هو ما يجعل للصدمة عواقب وأعراض مرضية.
ما هي أعراض اضطراب ما بعد الصدمة لدى الطفل؟
يشعر الأطفال المصابون باضطراب ما بعد الصدمة بالكثير من الكدر والضيق الانفعالي والجسدي عند تعرضهم لمواقف تذكرهم بالحدث الصدمي.
قد يسترجع البعض الصدمة مرارًا وتكرارًا. وقد يكون لديهم كوابيس وذكريات مزعجة أثناء النهار، ومن الممكن أيضا أن يكون لديهم مشكلات في النوم، مع فقد الاهتمام بالأشياء التي كانوا يستمتعون بها.
وقد يبدون منفصلين عن الواقع أو مخدرين ولا يستجيبون لمثيرات الحياة. وقد يجدون صعوبة في تلقي ومنح العاطفة، وقد يكونوا أكثر عدوانية من ذي قبل، وقد يظهر العنف في طريقة اللعب أو قد يعيدون تمثيل الصدمة في لعبهم، وقد يحرصون على تجنب أماكن أو مواقف معينة تسترجع له ذكريات الصدمة، وقد يعتقدون أن الحدث يحدث مرة أخرى وأنهم تعرضوا للصدمة بسبب غفلتهم عن علامات التحذير التي تنبئ بالحدث الصدمي وفي محاولة لمنع الصدمات في المستقبل عليهم أن يكونوا يقظين للغاية في البحث عن علامات التحذير بأن شيئًا سيئًا سيحدث مرة أخرى وهذا يجعلهم يشعرون بالتوتر والعصبية أو اليقظة المفرطة (على أهبة الاستعداد) لأي خطر، وقد تمتد مشكلاتهم لتصل لتحصيلهم الدراسي في المدرسة وقد يجدون صعوبة في التركيز، وقد يخافون من فكرة الموت في سن مبكرة، وقد يمارسون سلوكيات نكوصية مثل: مص الإبهام أو التبول اللاإرادي مع أعراض جسدية مثل: الصداع أو آلام في المعدة، كذلك قد تتأثر درجة الثقة بالآخرين فيخاف ويفضل العزلة.
هل كل الأطفال الذين يمرون بحدث صدمي يمكن أن يطورا اضطراب كرب ما بعد الصدمة؟
ليس كل الأطفال معرضين لخطر الإصابة باضطراب كرب ما بعد الصدمة، فهذا يتوقف على عدة عوامل منها: ما مدى قرب الطفل من الحدث الصدمي؟، وما درجة وشدة هذا الحادث وعواقبه من خسارة؟ وما مدة استمراره؟ وما عدد مرات تكراره؟ وما مدى قدرة الطفل على التعافي بما لديه من صمود ومرونة نفسية؟ وما مهارته النفسية والحياتية التي يتمتع بها قبل الحدث؟ وما طرق التكيف التي يتبعها، فالبعض يتبع طرق تكيف غير صحية كالتدخين والكحول كآلية هروب؟ وما حجم دعم الأسرة الطفل والمجتمع بعد الحدث؟ فالثقافة السائدة في المجتمع يمكن أن تلعب دورًا في فهم الحدث وإدراك في سياق صحي أو مرضي، كل هذه عوامل تشكل عوامل خطورة أو حماية للطفل عند تعرضه لحادث صدمي.
علاج الصدمة والإساءات:
أما علاج هذا الاضطراب فمن المهم أن يكون مبكرًا ليخفف الأعراض، ويعزز النمو الطبيعي للطفل، ويحسن جودة حياته.
وتتنوع مناحي العلاج بدءا من العلاج الدوائي حيث قد تساعد أدوية الاكتئاب أو القلق بعض الأطفال على الشعور بالهدوء، أما العلاجات النفسية الموجهة لهذا الاضطراب فمنها العلاج السلوكي المعرفي (ع.س.م CBT) الذي يساعد الطفل على تعلم مهارات التعامل مع قلقه، وإعادة صياغة موقف الصدمة، والتحكم في المثيرات المرتبطة به، وهذا المنحى العلاجي يعتبر من أكثر العلاجات التي تمت دراستها على نطاق واسع وهو علاج قائم على أدلة تجريبية تشير لفعاليته وصلاحيته مع الكبار والصغار، وكذلك أحد المناحي العلاجية الحديثة هو تقليل وخفض الحساسية بحركة العين وإعادة المعالجة (EMDR) وهو علاج حديث ومتطور ومشهود بفعاليته وسرعة نتائجه.
والتطورات الحادثة في العلاجات النفسية صارت متسارعة ومتراكمة في محاولة لفهم وتفسير الاضطرابات النفسية وبناء برامج التدخل المناسبة، وبرامج العلاج المقدمة للأطفال لها طبيعة خاصة حيث تحتاج لصياغة مناسبة لقدراتهم الإدراكية وقوة تحملهم ومثابرتهم خلال فترات تلقي العلاج ومدة الجلسات ومهامها، وتتطلب تبسيط في شرح المفاهيم والتكنيكات المستخدمة كي تكون واضحة ومفهومة بلغة تناسب الطفل، كما أن التدخل مع الطفل تستكمل فعاليته غالبا عند التنسيق مع الأسرة (الوالدين أو مقدم الرعاية) وإدماجهم في خطة العلاج مما يجعل التدخلات العلاجية مع الأطفال لها طبيعة خاصة تجمع بين التدخل الفردي والأسري.
وليست هناك فترة محددة للتعافي من هذا الاضطراب، فقد يتعافى بعض الأطفال في غضون 6 أشهر، وقد يعاني البعض الآخر من أعراض تستمر لفترة أطول، وتعتمد مدة التعافي ليس فقط على فعالية العلاج وكفاءة المعالج، إنما على نقاط القوة الداخلية للطفل مثل: تمتعه بالمرونة والتفاؤل، ومدى امتلاكه لمهارات التكيف والمهارات الحياتية، كما أنه يتأثر بمستوى دعم الأسرة التي يكون لها دور حيوي في علاج الطفل.اقرأ أيضا:
زوجتي طفلة كلما غضبت خاصمتني وذهبت لبيت أهلها.. ماذا أفعل؟اقرأ أيضا:
صديقتي تريد الانتحار وأهلها رافضون ذهابها إلى طبيب نفسي .. كيف أنقذها؟