ارتفعت في الآونة الأخيرة نغمة الاتهامات الموجهة للصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بالصراع السياسي للوصول إلى السلطة، حيث كان اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة عقب وفاة النبي ومبايعتهم لأبي بكر خليفة لرسول الله.
بعد وفاة النبيُّ صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الاثنين في (12 ربيع الأول 11هـ= 7 يونيو 632م) في المدينة، أحدثت وفاته صدمةً عنيفةً فاجأت المسلمين عامَّةً، وخلقت وضعيَّةً خاصَّة ذات ملامح متفرِّدة ومصيريَّة، وبرزت فورًا مسألة الحفاظ على إنجازاته من دينٍ ودولة، وبالتالي مسألة خلافته.
فأسهمت غيبته صلى الله عليه وسلم في إبراز الطابع الدنيوي للأحداث؛ حيث أخذت المصالح الاجتماعية للقبائل المختلفة، التي ما زالت ضمن الإسلام، تُعبِّر عن نفسها بأشكالٍ مباشرةٍ وصريحةٍ تتلاءم مباشرةً مع محتواها.
في الوقت الذي أُعلن فيه خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم برزت لدى كبار الصحابة من الأنصار -الأوس والخزرج- قضية اختيار خليفةٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أنَّه لم يرد في القرآن الكريم نصٌّ صريحٌ يُحدِّد أسس انتخاب خليفةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكنَّه دعا إلى الشورى، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 37، 38]. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
أول من عمل بالشورى هو النبيَّ صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه قبل الخروج إلى أُحُد، وهي التي أدَّت إلى هذا الخروج للقاء المشركين في ميدانٍ مكشوف، وكان رأي النبيِّ صلى الله عليه وسلم التحصُّن بالمدينة وعدم الخروج.
وطلب القرآن الكريم من النبيِّ صلى الله عليه سلم استشارة الأمَّة في الأمر حتى تنتفي الشبهة تمامًا في المسألة، وهذا الأمر هو لفظٌ عامٌّ للأفعال والأقوال والأحوال، ومن ضمنها مسائل الحرب التي أدَّت الآراء المختلفة فيها إلى الهزيمة.
وكأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أراد بذلك أن يترك الأمر شورى بين المسلمين ليختاروا من يصلح لخلافته.
إلا ان النفس العربيَّة والطبيعة القبليَّة تجلت بعد وفاة النبي مباشرة؛ فالأنصار يخافون قريشًا والمهاجرين إن استأثروا بالأمر دونهم، وهم جميعًا فيما بينهم يتوجَّسون، وتخشى كلٌّ من الأوس والخزرج صاحبتها، ولم يكن الوضع في مكَّة بأقلَّ منه في المدينة؛ فقد دبَّ التنافس في هذا الأمر بين بطون قريش، فسعى أبو سفيان بن حرب في إيغار صدر عليٍّ على أبي بكر رضي الله عنهما.
في الوقت الذي تضمنت بعض الروايات الزعم بنيَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت كتابة وصيَّةٍ للمسلمين لن يضلُّوا بعدها، غير أنَّه حدث لغطٌ واختلافٌ بين الحاضرين، فمن قائل: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله!" وعلى رأس هؤلاء سيدنا عمر بن الخطاب، ومن قائل: "قرِّبوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم". الأمر الذي ضايق النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: "قُومُوا عَنِّي، مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَي النَّبِيِّ خِلَافٌ". فقال عندئذٍ ابن عباس رضي الله عنهما: "الرزيَّة كلُّ الرزيَّة ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم".
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تذكر المصادر أنَّ الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة للتباحث فيمن يتولَّى الأمر بعد وفاته ، لكنَّها لم تذكر مَنِ الذي دعا إلى هذا الاجتماع، ولا كيف تمَّت الدعوة، وإنَّما روت وقوع الاجتماع في السقيفة.
وجاءت الدعوة للاجتماع على عجل دون إعلام المهاجرين، الذين كانوا مشغولين في تغسيل النبي والتجهيز لدفنه، ومن بينهم أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، فتساءل الأنصار في أمر مَنْ يخلف النبي صلى الله عليه وسلم خلال مرضه، وأنَّهم توقعوا وفاته، فلمَّا حصلت الوفاة دعوا إلى هذا الاجتماع فاجتمعوا.
يقول الطبريُّ: "إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قُبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: نُولِّي هذا الأمر بعد محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة"، بعد أن توفي سيد الأوس سعد بن معاذ رضي الله عنه، ويبدو أنَّ الأوس لم يكونوا راضين في قرارة أنفسهم عن تولية سيد الخزرج، ولا ندري أكانوا جميعًا حاضرين في اجتماع السقيفة أم أنَّهم كانوا يُراقبون الموقف من بعيد، وينتظرون تطوُّراته.
ومن الأسباب التي دعت الأنصال للعجلة في الاجتماعي لاختيار خليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، شعورهم بأنَّهم بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى اختيار خليفةٍ يتولَّى شئون المدينة وأمر المسلمين؛ وإدراكهم أنَّهم مهدَّدون قبل غيرهم من أولئك؛ لأنَّهم كانوا السَّنَد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين ناصروه، واستطاعوا مع المهاجرين أن يضعوا نواة الدولة الإسلامية الأولى، فضلا عن اعتبارهم أنَّهم أصحاب المدينة، وأصحاب الغلبة والنفوذ فيها، ومن ثم أحقيَّتهم بالخلافة من المهاجرين نظرًا إلى سابقتهم في الإسلام، ونصرتهم لرسول الله وأصحابه، وإيوائهم له، وبالتالي تحاشي هيمنة قريش الظاهرة منذ فتح مكَّة التي ارتضوها احترامًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم.