لم أكن أتصور أن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر الصديق حينما تبرع بماله كله طاعة لله والرسول بعدما أمر النبي أصحابه أن يتصدقوا، فتصدق أبو بكر بماله كله وقال قولته المشهورة حينما سأله النبي صلى الله عليه وسلم ماذا أبقيت يا أبا بكر فقال: "ترك لهم الله ورسوله"، لم أتصور أن قول أبي بكر وقف عند حد المنافسة على عمل الخير والتسابق على طاعة رسول الله والتنافس في الخير مع أصحابه، ولكني أتصور أن أبا بكر امتد تفكيره وإيمانه الذي يفوق إيمان الأمة كلها كما قال ذلك النبي، إلى أنه كان يدرك حقيقة الطريق إلى الدار الأخرة وما ينفع أبنائه في الدنيا.
فكثير من الناس حينما يأتيه المرض، تجده يبكي ندما على أنه لم يقتنع بما قدمه في الدنيا، ويذكّر بأن له أبناء وأطفال صغار لم يترك لهم شيئا من المال يغنيهم عن سؤال الناس، كما أنه لم يحقق شيئا من النجاحات التي تخلد ذكره.
وظني أن أغلبنا في هذه الحالة حينما يخشى على نفسه من الموت، يبكي في حقيقة الأمر على مافاته من متاع الدنيا الذي كان يطمح فيه، ويهرول إليه، فقد يبرر المرء نهمه في طلب الدنيا على تأمين مستقبل أبنائه، ولكنه قد يكون في الحقيقة مهرولا على بناء مجده في ترك ملايين الجنيهات التي تخلد ذكره وتبني مجده الشخصي، وشهرته بين أقرانه.
أولادك بك ومن غيرك سيُرزقون
وقد نبه الله سبحانه وتعالى على أن الخوف على الذرية من الفقر مفاده وعلاجه الحقيقي هو الخشية من الله، فقال سبحانه وتعالى في سورة النساء: " وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)".
فقد بين الله تعالى أن الأبناء مسئولون من الله وليس منك أنت، مع ما نبه عليه الشرع من ضرورة أن تترك أبنائك أغنياء لا يتكففون الناس، ولكن في نهاية الأمر رزق ابنك بيد الله وليس بيدك، وأبناؤك بك ومن غيرك سيعيشون.
فكل منا معرض أن يموت فجأة، وأن يترك خلفه ذرية ضعيفة، بالطبع هو يضمن لها رحمة الله سبحانه وتعالى، لكنه لا يضمن الحياة وخداعها ومصاعبها، كلنا معرض لذلك، لذا تقول لنا الآية إن أمامنا فرصة لحماية أبنائنا وذلك بأشياء منها عدم ظلم الضعفاء الذين يعيشون معنا سواء أكانوا أقرباءنا أو كنا مسئولين عنهم أو حتى من يؤخذ رأينا فيهم.
وفى الآية ترغيب، وذلك لأنها تقدم أسلوب الأمل وتمهد للنجاة، تقول لنا إننا لو التزمنا ولم نظلم الآخرين فإن أبناءنا سوف ينجون بفضل ما قمنا به من خير، على الأقل سوف يجدون من ينصرهم ويقف بجانبهم.
وفى الآية أسلوب ترهيب، لأنها تقول لنا إن ظلمنا أو أكلنا حقا ليس لنا أو شهدنا زورا أو قلنا قولا غير سديد، فإن أبناءنا الذين نفعل كل ذلك من أجلهم ونرتكب الموبقات كى يصبحوا أقوياء سوف يدفعون ثمن سوء أفعالنا، على الأقل لن نجد من ينصفهم.
تقول لنا هذه المعانى، إن الأمر بسيط، فليس سوى أن نقول القول السديد السليم، قول الحق الذى لا يضيع الحقوق ولا يضيع حقوق الناس.
وهو ما فقهه أبو بكر الصديق حينما قال قولته المشهورة بأنه ترك لأبنائه الله ورسوله ليس كمجرد كلام يتبرك ويؤمن به ولكنه سلوك يفعله، حينما يدرك أن كل مثقال ذرة من خير سيجد الله عنده وعند أبنائه فيها، وكل مثقال ذرة من شر سيجد البلاء في مقابلها.
الثروة الحقيقية
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، رواه مسلم،
فمن المعروف أن الإنسان إذا مات فإنه ينقطع عمله لأنه مات, والعمل إنما يكون في الحياة إلا من هذه الأمور الثلاثة لأنه هو السبب فيها الصدقة الجارية وهي الخير المستمر , والثاني العلم الذي ينتفع به بأن يعلم الناس ويدلهم على الخير وعلى فعل المعروف فإذا علم الناس وانتفعوا بعلمه بعد موته فإن له أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء, لأن الدال على الخير كفاعل الخير وهذا دليل على بركة العلم وفائدته في الدنيا والآخرة .
وأما الثالث وهو الولد الصالح الذي يدعو له بعد موته, فلأن الولد من كسب الإنسان وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث (أو ولد صالح يدعو له), لأن غير الصالح لا يهتم بنفسه فلا يهتم بأبيه أو أمه وفيه إشارة إلى أنه من المهم جداً أن يربي الإنسان أولاده تربية صالحة حتى ينفعوه في حياته وبعد مماته .
قال تعالى :{..ِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }الزمر.