لم اختار عمر بن الخطاب عمرو العاص لهذه المهمة العظيمة مهمة فتح مصر . وما العقبات التي واجهت عمرو بن العاص رضي الله عنه .. وكيف تغلب عليه.. هذه الأسئلة وغيرها كانت محل اهتمام المؤرخ الكبير د. عبد الحليم عويس أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية.
ويبين د. عبد الحليم عويس أن مما واجهه عمرو بن العاص في تحقيق الفتح الإسلامي لمصر موقع "أم دُنَين"، وكانت تُدعى "تندونياس" ثم سميت "المقس"، وموضعها الآن حديقة الأزبكية في القاهرة، قريباً من الفجالة، وميدان رمسيس، وقد أطلق المسلمون عليها اسم "أم دُنَين"، وكانت ذات موقع حصين، وبها سفن كثيرة، تفيد من يتغلب عليها وبها مسلحة قوية، وإلى الجنوب منها يوجد العدد الأكبر من جيش الروم في حصن بابليون، الذي كان في استطاعته أن يقاوم المسلمين ثم يعود إلى الحصن آمناً، وقد توقف عمرو أمام تلك المقاومة؛ إذ كان قد فقد أكثر من ربع جيشه في المواقع السابقة، فكتب إلى الخليفة عمر يطلب منه مدداً مستحثاً إياه على إرساله على جناح السرعة، ولكن المدد أبطأ عنه، فلجأ عمرو إلى ذكائه يواجه به الظروف الضاغطة، حتى يصل المدد.
كيف تغلب عمرو بن العاص على أم ذنين؟
ويضيف د. عويس في بحثه عن عمرو بن العاص ودوره في فتح مصر أن عمرو قد عمد إلى تنظيم مواقعه، فحفر الخنادق، وزاد من تفريق أصحابه ليرى العدو أنهم أكثر مما هم عليه، وعندما علم باقتراب المدد كانت معلومات قد توفرت لديه تقول: "إن "تيودور" قائد الروم قد صمم على مهاجمة المسلمين قبل أن تنضم إليه قوات المدد، فما كان من عمرو إلا أن أرسل كتيبتين تحت جناح الليل تمركزت إحداهما عند موقع أم دنين ذاتها، في حين تمركزت الأخرى في موضع في ثنية الجبل "قرب القلعة الحالية"، وخرج عمرو بأكثر الجمع من المسلمين للقاء الروم بعد أن طلب من جند "الكمينين" عدم الظهور إلا عندما يسمح الموقف بالانقضاض على جناح جيش الروم ومؤخرته، وخرج "الروم" من بين البساتين والأديرة التي كانت في الشمال الشرقي من الحصن، ولم يكن لهم علم "بمكيدة عمرو"، وحدث اللقاء بين الجيشين في مكان وسط بين معسكريهما ـ ولعله مكان العباسية الآن ـ ولما اشتدت المعركة، أقبلت الكتيبة الأولى من جهة الجبل تجتاح مؤخرة الروم، فاتجه هؤلاء ـ وقد ركبتهم الهزيمة ـ في اتجاه "أم دنين" فلقيتهم قوة الكمين الآخر بها، ففرّ الروم يطلبون النجاة، ولكن سيوف المسلمين حصرتهم، فلم ينجُ منهم غير ثلاثمائة مقاتل.
الإمدادات ودورها في فك الحصار:
ويؤكد: نستطيع أن نقرر أنه حتى ذلك الوقت لم يكن المدد الذي أرسله الخليفة قد وصل ولكن عندما زحف عمرو لحصار حصن بابليون كان واعياً بأنه بدون وصول المدد لن يستطيع الاستيلاء على الحصن، ولا سيما وأن الروم كانوا قد أدركوا قلة أعداد المسلمين والحيل التي يلجأ إليها عمرو بن العاص، ولم يمض طويل وقت حتى وصل مددان متلاحقان كل مدد منهما يتكون من أربعة آلاف رجل، وعليهم بعض كبار القادة الصحابة من أمثال الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبيدة بن الصامت، كما أرسل له الخليفة عمر بن الخطاب رسالة يقول له فيها: "إن معك اثني عشر ألفاً، ولا يُغلب اثنا عشر ألفاً من قلة".
ويلفت د. عويس أن الإمدادات لم تصل إلا بعد فتح "أم دنين"، أو على الأقل لم تصل أكثريتها إلا بعد هذا الفتح، وبهذه الإمدادات التي وصلت إلى مصر على وجه التقريب في منتصف جمادى الأولى سنة 19هـ الموافق مايو 640م، بلغ عدد الجيش المصري المسلم نحو خمسة عشر ألف جندي، في مواجهة عشرين ألف جندي كانوا في خندق الروم، هذا بالإضافة إلى عدد كبير من الصحابة المهاجرين والأنصار الذين كانوا قوة معنوية كبرى للجيش، وكان سقوط "أم دنين" سقوطاً لمكان استراتيجي مهم، ولمساحة كبيرة حولها، بل إن المواقع خارج حصن بابليون بدأت تتداعى كما تتداعي حبّات العقد بعد انفراطه، وكانت موقعة عين شمس، أو حسب التسمية الخاطئة لبتلر "هيليو بوليس" مجرد معركة فرعية تابعة لموقعة "أم دنين" بيد أن مصطلح "عين شمس" هنا لا يقصد به مدينة عين شمس بموقعها المعروف الآن كجزء من القاهرة، بل أريد بها بعض الحصون القريبة من "أم دنين"، ومن حصن بابليون، وهي لا تخرج عن المنطقة الواقعة في الجنوب من قصر الشمع، وبين الشَّرف ـ ويسمى الآن "جبل الطواحين" ـ ونهر النيل إلى دير الطين "دار السلام".
حصن بابليون:
ويوضح "عويس" أنه لم يكن يصلح ـ في مواجهة ما حشده الروم في حصن بابليون من العدة والعتاد ـ أن يقاتل عمرو ببقية الأربعة آلاف الذين خرجوا معه من الشام، ثم إن هذا الحصن كان من المناعة والحصانة بحيث لا يمكن اقتحام أسواره، أو تخريب أبراجه، ويقع هذا الحصن بالقرب من "منف" العاصمة القديمة لمصر، على مقربة من الفسطاط . وما زالت بقايا الحصن الآن في حي مصر القديمة ... وليس القاهرة القديمة كما تذهب بعض المراجع (Old Cairo) بجوار الكنيسة المعلقة . ويسمى المسلمون هذا الحصن بقصر الشمع أو بالحصن ـ هكذا مجرداً ـ وهو حصن قديم بناه الإمبراطور الروماني "تراجان (98 ـ 117م)، وقد استحق ـ لأهميته التاريخية والعسكرية ـ
ويضيف: كان بالحصن كثير من الأزواد والذخائر من كل نوع، ويجدر بنا هنا أن نذكر أن كل الكنائس التي كانت في داخل الحصن كانت تؤمها قساوسة على المذهب "الخلقدوني" أو الملِكاني، ولم يُبح لأحد هناك أن يتعبد على غير ذلك المذهب، فإن قيرس كان لا يزال على عهده العدو الأكبر لمذهب القبط، وبقي على ذلك إلى آخر أمره، وإن في وجوده بالحصن لأقوى دليل ـ إذا احتاج الأمر إلى دليل ـ على أنه لم يبق بالحصن من القبط، إلا من أزالهم الاضطهاد عن عقيدتهم، بل إن الروم أساءوا الظن ببعض هؤلاء فوضعوهم في السجن وأنزلوا بهم نكالاً فظيعاً.
ونحن نستطيع ـ مطمئنين ـ أن نقول : إن الفترة التي أعقبت حصار المسلمين لحصن بابليون والتي امتدت سبعة أشهر ـ قد أفرزت وضعاً مصرياً يميل إلى الانحدار والنهاية، فحتى في داخل حصن بابليون كانت العناصر غير متجانسة، وغير متفقة على غايات واحدة؛ فقد كان الروم ـ الذين يبدو أن نفوذ المقوقس عليهم قد أصبح هزيلاً، وأنهم يأتمرون بأمر الإمبراطور "الملك" أكثر مما يأتمرون بأمر مندوبه "المقوقس" ـ يعانون من عزلة كبيرة، ويشعرون بأنهم يجب أن يدفعوا ثمن اضطهادهم الديني للمصريين، كما يشعرون بأن المقوقس ـ الذي يعيش الواقع، ويعرف عمق الأزمة، ولا يجد من هرقل إلا كل سخرية ورفض لوصاياه وآرائه ـ قد أصبح يشعر بأن المستقبل للمسلمين، وبأن مصلحته تملي عليه أن يرتبط بالقبط، وبالبلد الذي عاش فيها سيداً مدة طويلة من عمره.
وما كان باستطاعة الجيش الرومي المختلف عقيدة عن المصريين، والذي يحكمه الإمبراطور بالدرجة الأولى، والذي يحمل تاريخاً من الأوزار في حق المصريين لا يمكن تجاهله، ما كان باستطاعته أن ينسى كل هذا وأن يتجانس مع بقية العناصر ـ في مصر ـ تحت المظلة الإسلامية العادلة .
وبعد شهر واحد من القتال بدأ هذا الوضع النفسي يعمل عمله في داخل حصن بابليون، يضاف إليه ما أدركه جميع القبط والروم "من جدّ العرب وتصميمهم على فتح الحصن وصبرهم على القتال ورغبتهم في النصر"، فكان أن تنحى المقوقس وبعض أكابر القبط، وخرجوا من الباب القبلي للقصر، حتى لحقوا بجزيرة الروضة، وأمروا بقطع الجسر، وأخذت "الروح المعنوية"، من ثم تتدهور لدى القبط، وظهرت الانقسامات فيما بينهم، فأجمع المقوقس وثقاته أمرهم على بدء المفاوضات مع المسلمين للصلح.