أمن الله سبحانه وتعالى لعباده أرزاقهم، إلا أنه عز وجل رهنه فقط بشيء بسيط حتى يكون مسبب له، فقد جعل الله لكل شيء سببًا، وعلي أن تتبع السبب، قال تعالى فأتبع سببا"، ومن الأسباب التي دلت على الرزق أمره سبحانه وتعالى بالسعي عليه، يقول الله تعالى في سورة النجم: "وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى".
فالرزق كله بيد الله، وليس لمخلوق من الخلائق أي حيلة فيه سوى تنفيذ ما أمر به ربنا عز وجل، فلا حيلة في الرزق ولا شفاعة في الموت، قال تعالىفي سورة لقمان: " وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)".
فالرزق مضمون بما كتبه الله على نفسه للعباد، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ*مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}. سورة الذاريات الآية (56-58).
فقد خلق الله المخلوقات وأحصاها عدداً، ورزقها من فيض خيره فلم ينسَ من فضله أحداً، ومن المعلوم أن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى، وأن الواجب على الإنسان أن يسعى وأن يأخذ بالأسباب، فكلٌ مُيَسَّرٌ لما خُلق له، كما جاء في الحديث: {إنَّ رُوح القُدسِ نَفَثَ في روعي أنه لن تَمُوتَ نفس حتى تستكمل رِزْقها وأجَلَها}. أخرجه أحمد.
وكما في قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}. سورة فاطر الآية (3).
ولكن بعض الناس لم يأخذوا بالأسباب التي دعت للرزق، كما وأن هناك أسباباً معنوية يهيئ الله بها الأرزاق وييسرها، منها: الاستغفار، (فقد شكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً؛ فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه؛ فقال له: استغفر الله، فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلتُ من عندي شيئاً؛ إن الله تعالى يقول في سورة نوح: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا*يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُمْ بأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا}.
و رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من لَزِم الاستغفار، جعل الله له من كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كُلِّ هَمٍّ فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب).
وأضاء الله سبحانه وتعالى لأصحاب الأياد المرتعشة، الطريق، بهذه الآية الكريمة "وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى"، من أجل الاعتماد على أنفسهم، مؤكدا لهم أن السماء لن تمطر ذهبا ولا فضة، ولكن الرزق مشروط بالسعي على العمل، ولم يكن مشروطا على ضربة حظ أو الاعتقاد ببعض الأمثال الشعبية والتي من بينها "قيراط حظ ولا فدان شطارة".
اظهار أخبار متعلقة
يرزق من يشاء بغير حساب
وبالرغم من أن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وجعل لنفسه الحق في أن يكون صاحب الحكمة الوحيدة في رزق هذا وحرمان ذاك، إلا أنه جل وعلا أبان الطريق، وكشف أن دليله هو السعي، وبعد ذلك تكون النتيجة عند الله وهو يكافئ بها بحسب ما يرى فيه النفع لعباده.
وقوله تعالى "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" أحد المبادئ العظيمة التي قررها القرآن الكريم بأسلوب لغوي لا يوجد مثيل له، وفي سياق آيات عظيمات، وقرآن معجز، فهذه الآية تصلح أن تكون إحدى العالميات التي يرتكز عليها البشر خلال دروب حياتهم، فهي تحمل معانٍ مستفيضة قبل أن تحمل عبارة أخرى مثلها. يبعد هذا المبدأ الإنساني العظيم عن الإنسان كل ما قد يدخل في صدره من يأس أو حقد أو غيره وأي شيء آخر من أمراض النفس المستعصية.
هذه الآية الكريمة لم تكن لملة دون ملة أو فئة دون فئة، ولكنها دليلا للبشر والحجر والطير والشجر، فتوجه هذه الآية خطابها لكل البشر على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأعراقهم وأديانهم وطوائفهم وأفكارهم ومللهم ولغاتهم لتقول لهم أن ما يحدد تميز إنسان عن إنسان آخر هو مقدار بذله وعطائه في سبيل رفعته ونهضته وعزته، حيث سمت هذا البذل والعطاء بالسعي، فلقد خلق الإنسان في هذه الأرض ليكون خليفة الله فيها، يعمرها ويسعى فيها ويكتشف خفاياها، لينعم بالعيش الهانيء والحياة.
وتعلن الآية أن الراحة والسكون الدعوة وقبول الأمر الواقع لن يحدثا تغييراً حقيقياً، ينشده الناس، يحقق لهم الحياة الكريمة التي يسعون إليها، فكل شيء في هذا الكون متحرك، والكون لا يعرف السكون، ولهذا يجب على الإنسان أيضاً أن يكون دائم الحركة والسعي وراء احتياجاته ووراء عزته وأهدافه ورفعته، فالتقدم يحتاج للحركة.
السعي في الحياة
وربط الله سبحانه وتعالى بين السعي وبين كل معاني الحياة، وبالتالي فإن السعي في هذه الآية يشتمل على التعلم والعبادة والعمل وتطوير النفاس والاختراع والسفر والزواج وتكوين العلاقات الاجتماعية وغيرها العديد من النشاطات التي تعمل على زيادة مخزون الإنسان المعرفي والروحي، وبالتالي زيادة رصيده وزيادة قيمته، فهو إنسان متميز يحبه الله وبالتالي سيحبب الناس فيه وجميع خلقه.
وعبر الله سبحانه وتعالى عن هذا بقوله في آيات أخرى﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: ٩]، و قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: ١٥].
بل أمر الله سبحانه وتعالى الإنسان بأن يقرن صلاته بسعيه على الرزق من خلال قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ﴾ [الجمعة: ١٠]، وقوله تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: ١٠٥].
وروى الطبراني أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه قال: «اطلبوا الرزق في خبايا الأرض»، وقال عليه الصلاة والسلام: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده».