الرحمة اسم وصفة مشتقة من صاحبها، ألا وهو الله الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى، وقد جعل الله عز وجل الأساس في خلق العبادة وجميع المخلوقات، هو الرحمة، فكتب على نفسه الرحمة، وأمر بالتراحم فيما بينهم، إلا أن صراع الناس على الحياة، والتنافس فيها على المادة، نزع من بينهم الرحمة، بعد أن تدهورت أخلاقهم، ونقص الوازع الديني في نفوسهم.
فأخلاق الرحمة، من أعظم أخلاق المسلمين، وهي مفتاح القبول لدى القلوب، والتخلي عن الرحمة، هو بمثابة إحلال للجاهلية وانتشار الفوضى والقتل، ولقد كشف الله في كتابه عن الأمم التي فقدت الرحمة، مثل أصحاب الأخدود؛ الذين أضرموا النيران، وخدوا الأخاديد في أفواه السكك، وجنبات الطريق، وكان ذلك حينما آمن الناس بما جاء به الغلام المؤمن، فكان من لم يرجع عن دينه يقحم في النار، فتنهش جسده نهشا، حتى لا يرى إلا رمادا، قال تعالى:(قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [الفجر:4-8].
وانظر إلى اليهود كيف لعنهم الله عز وجل حينما قست قلوبهم وتخلوا عن الرحمة، قال تعالى (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة:74]. فكشف الله خبثهم، وبين أنهم قتلة ومردة من قديم الزمان (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَدرَأْتُمْ فِيهَا وَللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة:72].
وبما فعله يهود يحكم الله عليهم باللعنة والحرمان من الرحمة (فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ) [المائدة:13].
الرحمة خلق المؤمن
فالرحمة هي أساس خلق المؤمن، وقد مدح الله نبيه بالرحمة، فقال تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159]. (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِلْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ) [التوبة:128].
وتجلت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم، في جوانب كثيرة من حياته، حتى لقد أصبحت سمة بارزة، فقد أخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلا قول الله تعالى: (رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [إبراهيم:36]. وتلا قول عيسى -عليه السلام-: (إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة:118]. فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه وقال: " اللهم أمتي أمتي وبكى"، فقال الله -عز وجل-: يا جبريل اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل -عليه السلام- فسأله، فأخبره -صلى الله عليه وسلم- بما قال -وهو أعلم- فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك" .
فقد ارتفعت وارتقت رحمة النبي حتى بكى خوفا على أمته، ولم تقف عند هذا الحد فحسب، بل لقد حوت رحمته طبقات المجتمع كلها، أراملَ وأيتاماً، نساءً ومساكينَ، صغارا وكبارا، ولم يقتصر ذلك على فعله، بل عداه بقوله: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" رواه أبو داود والترمذي.
اظهار أخبار متعلقة
من لايرحم لا يُرحم
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله" رواه مسلم.
وقال في التحذير من عدم الاشقاق على الناس، ونزع الرحمة عنهم، والنغرة عليهم: "اللهم من ولي من أمر المسلمين شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر المسلمين شيئا فرفق بهم فارفق به" رواه مسلم.
وارتقت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالخلق، فتعدت نطاق البشرية إلى نطاق الحيوانات، فلقد دخل -صلى الله عليه وسلم- حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبيَ -صلى الله عليه وسلم- حن الجمل وذرفت عيناه؛ فأتاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمسح ذفراه فسكت، فقال: " من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟" فجاءه فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله فقال له: " أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكى إلي أنك تجيعه وتدئبُه" رواه أبو داود.
وتعلم الصحابة الرحمة من النبي صلى الله عليه وسلم، فها هو الصديق أبو بكر، خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وثاني اثنين إذ هما في الغار، الذي جبل نفسه على الرحمة والتراحم، منذ نعومة أظفاره، وما سمي بالعتيق، إلا لكثرة ما يعتق من العبيد رحمة بهم، وإنقاذا لهم من سطوة غلاظ الأكباد وشرار الخلق، كان -صلى الله عليه وسلم- يتعهد امرأة عمياء في المدينة، يقضي لها أشغالها سرا، إبان خلافته للمسلمين، كما أنه كان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة، قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا. فسمعها فقال: بلى لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه.
والخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي كان شديدا، فلما ولي الخلافة، خطب الناس مطمئنا لهم قائلا: "اعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدا يظلم أحدا، أو يعتدي عليه، حتى أضع خده وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك، أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف".