تعددت أسماء خاتم المرسلين والنبيين صلى الله عليه وسلم مما يدل على تعظيمه، وعلو مكانته ومنزلته ، ولكن يبقى "محمد" أعظم أسمائه على الإطلاق صلى الله عليه وسلم.
فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ".
يقول الباحث الدكتور ربيع لعور في مقال له: يعد هذا اسم "محمد" بمثابة الرأس للجسد من أسمائه الشريفة صلى الله عليه وسلم، يدل على هذا القرآن والسنة، أما القرآن؛ فلأنه أكثر الأسماء تداولا فيه؛ فقد تكرر ذكره أربع مرات في المواطن الآتية:
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ﴾ [ آل عمران: 144].
وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ [الأحزاب: 40].
وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ [ محمد: 2].
وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح:29].
والملاحظ في جميع هذه المواطن أنَّها وردت في سياق الإخبار، ولم يرد في القرآن الكريم كله مناداته بهذا الاسم فضلا عن مناداته بغيره، وإن حصل لغيره من الأنبياء، بل الغالب نداؤه بوصف الرسالة أو النبوة إلا في سورتي المزمل و المدثر، وهذا ما يُنبِئُ عن تعظيم الله تعالى لقدر نبيه صلى الله عليه وسلم.
سبب هذه التسمية، ويرجع الفضل في ذلك بعد الله عز وجل إلى جدِّه عبد المطلب، حيث أُلهمَ بهذه التسمية التي لم تكن شائعة عند العرب، حتى استغربها قومه؛ فقالوا له: كَيْفَ سَمَّيْتَ بِاسْمِ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ آبَائِك وَقَوْمِك؟.
فَقَالَ: " إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْمَدَهُ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ ".
وقد حُكِيَ أن سبب هذه التسمية رُؤْيَا رَآهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فقَدْ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ خَرَجَتْ مِنْ ظَهْرِهِ، لَهَا طَرَفٌ فِي السَّمَاءِ، وَطَرَفٌ فِي الْأَرْضِ، وَطَرَفٌ فِي الْمَشْرِقِ، وَطَرَفٌ فِي الْمَغْرِبِ ثُمَّ عَادَتْ؛ كَأَنَّهَا شَجَرَةٌ بحسب مقال د. ربيع لعور.
عَلَى كُلِّ وَرَقَةٍ مِنْهَا نُورٌ، وَإِذَا أَهْلُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَأَنَّهُمْ يَتَعَلَّقُونَ بِهَا، فَقَصَّهَا؛ فَعُبِّرَتْ لَهُ بِمَوْلُودِ يَكُونُ مِنْ صُلْبِهِ يَتْبَعُهُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَيَحْمَدُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ مُحَمّدًا.
ولا يعني هذا انفراده صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم دون العرب قاطبة، فقد وجدت فئة قليلة تسمَّت بهذا الاسم، قبيل بعثته صلى الله عليه وسلم بزمن يسير، ولم يكن هذا السلوك منهم بمحض رأي آبائهم، بل تلقَّفُوهُ عن أهل الكتاب، فسمَّوا أبناءهم بهذه التسمية لعلهم يحظون بشرف النبوة، وقد ذكر الإمام السهيلي منهم ثلاثة؛ ثمَّ قال: " وكان آباء هؤلاء الثلاثة قد وفدوا على بعض الملوك، وكان عنده علم الكتاب الأول، فأخبرهم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وباسمه، وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملاً، فنذر كل واحد منهم إن ولد له ذكر يسميه محمداً، ففعلوا ذلك ".
لكنَّ القاضيَ عياضَ نازع في عددهم، وأثبت أنهم سبعة، وهم: محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسى وهو أخو عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمه، ومحمد بن براء البكري، ومحمد بن سفيان بن مجاشع جد جد الفرزدق الشاعر، ومحمد بن حمران الجعفي، ومحمد بن خزاعي السلمى، ومحمد بن مسلمة الأنصاري.
أمَّا أول من تسمى منهم بهذا الاسم؛ ففيه نزاع، يقول القاضي عياض: " ويقال أول من سُمِّيَ محمدا: محمد بن سفيان، واليمن تقول: بل محمد بن اليحمد من الأزد؛ ثم حمى الله كل من تسمى به أن يدعىَ النبوة أو يدعيها أحد له أو يظهر عليه سبب يشكك أحدا في أمره، حتى تحققت السمتان له صلى الله عليه وسلم، ولم ينازع فيهما ".
ورغم تسمي هؤلاء السبعة باسم محمد إلا أنه لم ينفعهم عند الله عز وجل، ومن سوء سعدهم أنهم ماتوا جميعا على الكفر غير واحد فقط؛ وهو محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه.
وقد يتبادر إلى الذهن أنَّ تسميَ هؤلاء بهذا الاسم، يعكِّر علينا صفو دلالة الحديث على اختصاصه صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم، ويجيبنا عن هذا العلامة ابن باديس بقوله: " نعم، قد سمى بعض العرب أبناءهم محمدا قبل البعثة بقليل، وهم نفر قليل ولم يعرفوا بنبوة، ومنهم من أسلم فكان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان ذلك القليل في حكم العدم، على أن المقصود بتخصيصه تخصيصه من بين سائر الأنبياء، والشيء إنما يفضل بالنسبة لمن في منـزلته، فمحمد صلى الله عليه وسلم لما تذكر فضائله وخصوصياته إنما تذكر بالنسبة للأنبياء والمرسلين؛ فإذا قلنا إن محمدا صلى الله عليه وسلم خص بهذا الاسم مثلا فمعنى ذلك أننا لا نجده لمثله من الأنبياء والمرسلين، فهذا الاختصاص اللفظي بهذه التسمية.
وكذلك هو مختص بها من جهة معانيها، فله من الكمالات التي يتحلى بها والإنعامات التي جعله الله سببا فيها والمواقف التي يقفها ما ليس لغيره، فليس ينال غيره من الحمد مثل ما يكون له من الله ومن الناس... ".
معناه، فلا بد من التنبيه ابتداءً إلى أنَّ القاعدة في أسمائه صلى الله عليه وسلم أنها ليست أعلاما مجرَّدة، بل هي مشتقة من صفات الكمال، يقول الإمام ابن القيم: " فَصْلٌ فِي أَسْمَائِهِ صلى الله عليه وسلم:وَكُلُّهَا نُعُوتٌ لَيْسَتْ أَعْلَامًا مَحْضَةً لِمُجَرَّدِ التَّعْرِيفِ، بَلْ أَسْمَاءٌ مُشْتَقّةٌ مِنْ صفاتٍ قائمةٍ بهِ؛ توجبُ له المدحَ والكمالَ ".
ويواصل د. ربيع لعور قائلًا: فإذا لوينا العنان إلى معنى اسم محمَّد لزم علينا معرفة أصل اشتقاقه أولا، وقد تتبعه أهل العلم؛ فألفوه مشتقا من الحمد، والحمد فيما ذكر الإمام الراغب الأصفهاني، هو الثناء على شيء ما بالفضيلة، بشرط أن تكون الفضيلة من كسبه، بخلاف المدح، فيكون فيه وفي غيره، فإنك تمدح الإنسان بجماله وهذا ليس من كسبه، وتمدحه بجوده وهذا من كسبه، أما الحمد فلا يكون إلا على الثاني فقط.
ومن خلال هذا نستجلي بعض المعاني الأولية لهذا الاسم، فالنبي صلى الله عليه وسلم محمود بهذا الاسم على فضائله المكتسبة، لكنَّ صيغة اسم المفعول في هذا الاسم تدل على تكرر هذا الحمد وعمومه في الحامدين، يقول الإمام السهيلي: "... وَهَذَا الِاسْمُ مَنْقُولٌ مِنْ الصّفَةِ؛ فَالْمُحَمّدُ فِي اللّغَةِ: هُوَ الّذِي يُحْمَدُ حَمْدًا بَعْدَ حَمْدٍ، وَلَا يَكُونُ مُفَعّلٌ مِثْلُ: مُضَرّبٍ وَمُمَدّحٍ إلّا لِمَنْ تَكَرّرَ فِيهِ الْفِعْلُ مَرّةً بَعْدَ مَرّةً...".
ويتابع د. ربيع لعور: فإن قيل: فما الفرق بين محمد ومحمود، والجواب أنَّ صيغة محمد تدل على تكرر الحمد، أما المحمود فتدل على حمده دون تكرر، ويفصح عن هذا السهيلي بقوله: "... وَأَمَّا مُحَمَّدٌ؛ فَمَنْقُولٌ مِنْ صِفَةٍ أَيْضًا، وَهُوَ فِي مَعْنَى: مَحْمُودٍ، وَلَكِنْ فِيهِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْرَارِ؛ فَالْمُحَمَّدُ هُوَ الّذِي حُمِدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرّةً كَمَا أَنَّ الْمُكَرّمَ مَنْ أُكْرِمَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةً، وَكَذَلِكَ الْمُمَدَّحُ وَنَحْوُ ذَلِكَ... ".
ويقول العلامة ابن باديس: " ومحمد اسم مفعول من حمَّد المضاعف العين، وهو يقتضي التكثير فالمحمد هو ذو الخصال الكثيرة الحميدة التي تقتضي حمده مرة بعد أخرى، فالمحمود هو من وقع عليه الحمد ولو مرة، وأما المحمد فالذي يكثر حمده، وهو في الأصل صفة وقد نقل من الوصفية إلى العلمية، وجعل دالا على الذات المسماة بهذا الاسم".
اقرأ أيضا:
أول جمعة بالمدينة.. ماذا قال فيها النبي؟اقرأ أيضا:
آخر من يدخل الجنة.. النبي يضحك من حواره مع رب العالمين