مر النبي صلى الله عليه وسلم بالكثير من الشدائد والمحن ما لم يواجهها غيره من الأنبياء رغم ما مروا به، من بينها محاولة أبي جهل، وشيبة وعتبة ابني ربيعة، وأبي سفيان صخر بن حرب والعاص بن وائل قتله، وما كانوا يكاشفونه به، من السب والتكذيب، والاستهزاء والتأنيب، ورميهم إياه بالجنون، وقصدهم إياه غير دفعة بأنواع الأذى والافتراء، وحصرهم إياه صلى الله عليه وسلم، وجميع بني هاشم في الشعب، وتخويفهم إياه، وتدبيرهم أن يقتلوه، حتى بعد، وبيت عليا عليه السلام على فراشه، ثم أعقبه الله تعالى من ذلك بالنصر والتمكين، وإعزاز الدين، وإظهاره على كل دين، وقمع الجاحدين والمشركين.
ولاقَى النبي صلى الله عليه وسلم من المِحن والشدائد أشقَّها؛ نشأ يتيمًا، وأُخرِج من بلده، وحُوصِر في الشِّعبِ ثلاث سنين، واختفَى في غارٍ، ومات له ستة من الولد، وتبِعَه قومُه في مُهاجَره وقاتلوه، ومكرَ به أهلُ النفاق، وسُقِي السمُّ، وعُمِل له السحر، وكان يقول: «أُخِفتُ في الله وما يُخافُ أحد، وأُوذيتُ في الله وما يُؤذَى أحد».
هجرته إلى الطائف
ومن أشد المحن التي قابلته صلى الله عليه وسلم رحلته - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف، كما ورد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟، قال: " لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي , فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت , فإذا فيها جبريل , فناداني فقال: إن الله - عز وجل - قد سمع قول قومك لك , وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال وسلم علي , ثم قال: يا محمد , إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ". متفق عليه.
ومع ما لاقاه من تلك المصائب وغيرها كان مُتفائلاً في حياته ويقول: «يُعجِبني الفألُ والكلمةُ الحسنة»؛ متفق عليه.
وأعرضَ النبي صلى الله عليه وسلم عن الدنيا ورجا ما عند الله؛ فكان يقول: «ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرةٍ ثم راحَ وتركها»، ففارقَ الحياةَ ولم يُخلِّف شيئًا من حُطامها؛ قالت عائشة - رضي الله عنها -: تُوفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ترك دينارًا ولا درهمًا ولا شاةً ولا بعيرًا، ولا أوصى بشيء.
وفي بداية الهجرة قال أبوبكر الصديق:.. فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، فقال: «لا تحزن إن الله معنا. اللهم اكفناه بما شئت». فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد، ووثب عنها، وقال: يا محمد، قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهما، فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا، فخذ منها حاجتك. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حاجة لي فيها". قال: ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلق، فرجع إلى أصحابه.
اقرأ أيضا:
قصة النار التي أخبر النبي بظهورهاسوار كسرى
وفي طريقِ الهجرةِ، وهو مطاردٌ مشرَّدٌ يبشِّرُ صلى الله عليه وسلم سراقة بأنه يُسوَّرُ سواريْ كسرى!
بُشرى مِن الغيبِ ألقتْ في فمِ... وحْيا وأفضت إلى الدنيا بأسرارِ الغار
والرسول صلى الله عليه وسلم في الغارِ، هو أبو بكر الصديق، فاستخفى فيه، فأرسل الله عنكبوتا فنسج في الحال على باب الغار، وحمامة عششت، وباضت، وفرخت للوقت، فلما انتهى المشركون إلى الغار، رأوا ذلك، فلم يشكوا أنه غار لم يدخله حيوان منذ حين، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، ليريان أقدامهم، ويسمعان كلامهم ويقولُ لصاحبِه: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا) [التوبة: 40].
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن في الغار , فقلت يا رسول الله , لو أن أحدهم نظر إلى قدميه , أبصرنا تحت قدميه , فقال: "يا أبا بكر , ما ظنك باثنين , الله ثالثهما؟" متفق عليه.
قال أبو بكر: فقدمنا المدينة ليلا , فتنازعوا أيهم ينزل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب , أكرمهم بذلك " , فصعد الرجال والنساء فوق البيوت , وتفرق الغلمان والخدم في الطرق , ينادون: يا محمد , يا رسول الله , يا محمد , يا رسول الله ".
وهو في قبة يوم بدر قال : «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم» فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك يا رسول الله، فقد ألححت على ربك. وهو يثب في الدرع، فخرج وهو يقول: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر: 45]. فكان كما أخبر. قال تعالى: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [الطور: 48]، وقال: (فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 64].
وفي أُحدٍ - بعد القتلِ والجراحِ - يقولُ للصحابةِ: (صُفُّوا خلفي، لأُثني على ربي). إنها هِممٌ نبويَّةٌ تنطحُ الثريَّا، وعزْمٌ نبويٌ يهزُّ الجبال.