ضربت الملكة بلقيس المثل الأعلى في حكمة المرأة التي تتولى شئون البلاد، وبلقيس اسم اشتهرت به ملكة سبئية كانت معاصرةً للنبي سليمان عليه السلام،وهي بلقيس بنت شرحبيل وينتهي نسبها إلى قحطان، ولقد ملكت سبأ الموجودة في اليمن تسع سنين ثم كانت خليفة عليها من قِبَل سليمان بن داود -عليه السلام- مدة أربع سنوات، قيل إنَّه كان تحت ملكها اثنا عشر ألف ملك وكل ملك تحت يده ألف ملك، ولقد ورد في حديث ضعيف لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّ أحد أبوي بلقيس كان جنيًا قال عليه الصلاة والسلام: "أَحَدُ أَبَوْيْ بِلْقِيسَ كان جِنِّيًّا"، إلا أن الحسن قد أنكر هذه الرواية، وحجته في ذلك أنَّ المرأة إنسية.

وتناول القرآن الكريم قصة بلقيس بشيئ من التفرد في إظهار متطلبات القيادة ومواصفات القائد بالرغم من أنها امرأة، والدور الفاعل التي تلعبه المرأة التي تتولى القيادة في شأن الملك والسلطان ، وإدارة شؤون البلاد والتأثير الفاعل في العلاقات الدولية وحسن تدبير سياسة الشعوب .

فكان القرآن هو المكتشف لشخصية هذه المرأة بلقيس، ولبراعتها في القيادة الحصيفة المحنكة والحكيمة والجريئة ، وما لها من دلالات عظيمة الشأن في عالم السياسة والعسكرية والتمدن بكل جوانبه .

وبدأ تناول القرآن الكريم لقصة هذه الملكة من خلال سرد قصة التوحيد والشرك، في سورة النمل عندما عرض القرآن مشهد الهدهد في حواره مع سليمان ، فلما تفقد النَّبي سليمان -عليه السلام- الحيوانات لم يجد الهدد فغضب غضبًا شديدًا؛ لغيابه بدون مبرر، وأقسم أنَّه سيذيقه العذاب إن لم يأتيه بحجة غيابٍ مقنعة، وعندما جاء الهدهد ألقى للنَّبي سليمان حجة غياب لفتت انتباهه وهي إخباره بشرك أحد الأقوام، ولأن النَّبي سليمان -عليه السلام- كان يكره الشَّرك بدأ الهدهد يحدِّثه عن الملكة بلقيس وعبادتها للشَّمس مع قومها، قال تعالى على لسان الهدهد: {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}.

فأرسل سليمان -عليه السلام- كتابًا إلى بلقيس يدعوها فيه إلى وحدانية الله، فأرسلت له الهدايا العظيمة، فردَّ النَّبي هداياها وبدأ بتجهيز جيش ليردَّها عن الشرك، فعند ذلك أسلمت بلقيس مع سليمان -عليه السلام- ولكنَّها لم تسلم خوفًا من الحرب وإنَّما إذعانًا منها لتوحيد الله رب العالمين.

وعجل سليمان -عليه السلام- بإحضار عرش بلقيس؛ لإظهار قوته وملكه وما أعطاه الله من نعم كثيرة أمامها، وبإحضار عرش بلقيس بهذه السرعة معجزة لنبي الله سليمان، وفي ذلك توضيح لها أن مهما بلغت قوتها وعزتها فعند سليمان القوة والعزة الأكبر، وعندما أراد إحضار العرش قال أحد الجن أنا أحضره لك قبل أن تقوم من هذا المجلس، ثم قال أحد المردة من الجن بل أنا أستطيع أن أحضره لك قبل أن ينتهي مجلسك هذا، وكان مجلسه ينقضي في نصف النَّهار، فطلب سليمان -عليه السلام- أن يُحضر بوقت أقصر وأسرع، فقال له من عنده العلم بكتاب الله قبل أن تغمض جفنك، وهذا فيه عدة أقوال منها أنَّ الذي أحضره هو جبريل أو أحد الملائكة الذين أيد الله بهم سليمان عليه السلام.

وقيل إنَّه آصف بن برخيل وزير سليمان -عليه السلام- والذي كان على علم باسم الله الأعظم والذي إذا دعى اللهبه أجاب، وهذا ما قال به ابن عباس رضي الله عنهما، وهناك من قال أنَّ أعلم شخص بكتاب الله هو سليمان -عليه السلام- وهو من أحضره، ولكن هذا ينافيه قول أنا آتي به قبل أن يرتد طرفك، وقيل هو الخضر سلام الله عليه.

اقرأ أيضا:

من هو النبي الذي أضاعه قومه؟

إسلام بلقيس

قبل أن تقدم بلقيس إلى الإسلام مع قومها أرادت أن تختبر صدق نيات سليمان -عليه السلام- اتَّجاه دعوتها، فاستشارت قومها أن ترسل له هديَّةً من اللآلئ والحلي، فإن قبل بالهدية فهو ملك يطلب حكمًا، وإن رفض الهديَّة وأصرَّ على دعوتها إلى الإسلام فهو نبي، وحينما رفض الهديَّة أيقنت أنَّه نبيٌّ ولا يطمع في الملك فأعلنت إسلامها مع قومها.

صفات القيادة لدى بلقيس

توافر أسباب القوة والمنعة والتحضر ، وتسخير موارد الأرض والطبيعة لما فيه خير المجتمع والشعب ..هذا ما قاله الهدهد حين غاب عن مملكة سليمان – عليه السلام – وجاء بالخبر (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ). 23 .

ولكن كانت مشكلة مملكة سبأ آنذك ، تكمن أنها قائمة على الإلحاد وعبادة غير الله ، وعدم الانصياع لرسالة السماء ..حيث كانوا يعبدون الشمس ويعظمونها ويسجدون لها كحال الكثير من المدائن اللادينية والعلمانية .

-اعتمدت بلقيس على المشورة في إدارة شؤون الدولة ، والأخذ برأي أهل الخبرة والاختصاص من أعيان الشعب ، وحكمائهم وأفطنهم ، لا سيما في الظروف الاستثنائية الصعبة ومسائل الحرب والسلم ، والعلاقات الدولية ، و سياسات الدولة الخارجية والأمن القومي .

فبعد أن ألقى الهدهد الكتاب المرسل من سليمان – عليه السلام – إلى بلقيس ، ما كان منها إلا أن جمعت الملأ قائلة (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ . إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ . قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُون ) 29 – 32 .

الإحساس بخطورة الأمور وحساسية الموقف، فالكتاب يحوى تهديدا صريحا لأمن مملكتها. فحملته محمل الجد ..لربما سمعت عن سليمان من قبل ، و قوة سلطانه ومنعة مملكته ، فالأمر جد خطير ولا يحتمل التأخير !!

-الحكمة والفطنة والذكاء السياسي،والدهاء في التخلص من معضلات الأمور وعويصها، إذ إنها فهمت من كلام الملأ ترجيح كفت الحرب والميل للمقاومة والدفاع عن شرف مملكتهم ، وعدم الرضوخ للملك العظيم سليمان ( قَالُوا نَحْنُ أُولُواْ قُوَّةٍ وَأُولُواْ بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ) . 33 .

فقد فوضوها بالأمر مع استعدادهم الكامل للنفير، فهم أهل دراية بالحرب و فنون القتال.

لكنها برزانتها وحصافة عقلها مالت للدبلوماسية في التعامل مع الملك القوي ، والحيلة واللين في علاقتها مع الخطر المحدق ، فالنساء بطبعهن لا يردن ولا يرغبن بالحرب كالرجال الذين تأخذهم العزة بالإثم أحيانا ، والغرور بالزعامة والرئاسة أحيانا أخرى.

ثم إنها تخاف على حضارة كلفت الكثير ، ومدنية أنجزت في عصور ، فكيف تتركها نهب قوة الملوك وسلطانهم إفسادهم .

( قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) 34.

- اختبار شخصية الأخر، وتجربته ، وهل هو من أهل الدنيا فيقبل الهدية ويكف عنها وعن مملكتها ، فتأمن بذلك حدودها ، أم يكون صاحب رسالة وقيم عليا فيرفض الهدية وعندها لكل حدث حديث !!( وإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) 35 .

لكن النبي الكريم صاحب الرسالة السماوية يغضب لذلك وينكر أن يشترى بالمال ولعاعة الدنيا وزينتها ، فما آتاه الله خير .. لذا يعلن الحرب والنفير (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ).37.

ويظهر له بالفراسة أن القوم آتين للسلم لا محالة ، بعد أن رأوا ما رأوا من عجائب القوة والسلطان في هذه الامبراطورية ، فيطلب من جنده من يأتيه بعرش بلقيس ، الذي هو رمز ملكها وعنوان قوتها ، مثبتا بذلك رمزية السيطرة والتمكن .



يأتيه العرش بطرفة عين ، ويأمر بتغييره وتنكيره من مبدعي وصناع مملكته وجنده، حتى إذا رأته بلقيس – بعدما وصلت بيت المقدس – تعجبت وترددت في الحكم عليه ، ذاهبة مذهب الدهاء الذي عهد عنها ( كأنه هو ) فلم تقل هو أو ليس هو ، بل مالت للتشبيه ، لما اعتراه من تغيير !!



ولما رأت ما رأت من قوة لا نظير لها ، وحضارة لا مثيل لها ، استسلمت لقلبها المرهف ونداء عقلها اللبيب – فهم أهل حكمة كما عهد عنهم – ، مؤمنة بالله العظيم الذي وهب سليمان هذا الملك ، فضمت سلطانها إلى سلطانه و مدنيتها إلى حضارته .