لا ينتبه أغلبنا لفقه الدعاء رغم أنه ليس مجرد عبادة أو كلمات تلجأ بها لله سبحانه وتعالى حينما ترجو منه شيئا في الدنيا، ولكن الدعاء كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان فقها عاليا، تجرد فيه النبي صلى الله عليه وسلم من بشريته، وارتقى لمنزلة عليا أهلته لرحلة السماء في الإسراء والمعراج، ليثبت النبي أن الدعاء ليس مجرد عبادة لإشباع الروح، بل هو وسيلة للتغيير من حال إلى حال، وسيلة للتغيير من البلاء إلى العافية، ومن الهزيمة إلى النصر، ومن الفقر إلى الغنى، ومن المنع إلى العطاء، ومن السخط إلى الرضا، ومن العجز إلى النشاط، ومن الفشل إلى النجاح ومن الأرض إلى السماء.
دعاء النبي في رحلة الطائف
( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك ) .
دعاء عظيم دعاه الحبيب المصطفى اثناء وجوده في الطائف لهداية أهلها الى الدين الاسلامي بعد ما لقيه من تعذيب ورجم بالحجاره، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطـائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخـوة ثلاثة أبناء عمرو بن عمير : عبد ياليل ومسعود وحبيب ، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح ، فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعـاهم إلى الله وكلمهم بما جـاء له من نصرته على الإسـلام والقيام معـه على من خالفه من قومـه.
فقـال له أحـدهم : هو يمرط [ أي : ينزع ] ثياب الكعبـة إن كان الله أرسلك، وقال الآخر : أما وجد الله أحداً يرسله غيرك ؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً ، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك .
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف ، وقد قال لهم : ( إذا فعلتم ما فعلتم فاكتمـوا عني ) ، وكره رسـول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم [ أي : يجرئهم ] ذلك عليه ، فلم يفعلوا ، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ، حتى اجتمع عليه الناس ، وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه ، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل حبلة [ أي : شجرة ] من عنب فجلس فيه ، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف ، فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ،.... إلى أخر الدعاءالمذكور).
وفي رواية موسى بن عقبة أن سفهاء الطائف قعدوا للرسول صلى الله عليه وسلم صفين على طريقه ، فلما مر بين صفيهم جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة ، وكانوا أعدوها ، حتى أدموا رجليه ، وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عريشة من عنب فجلس تحت ظلها إلى جدار. فلما جلس إليه واطمأن، دعا بالدعاء المشهور، الذي يدل على امتلاء قلبه كآبة وحزناً مما لقي من الشدة، وأسفاً على أنه لم يؤمن به أحد.
ونجد في هذا الدعاء البديع وصف الحال من ضعف وحيرة ورغم كل ذلك فهناك يقين بقوة الله القادرة على أن تأخذ بيده وتنجده مما هو فيه وأيضاً الرضا بالقضاء، فمن موجبات قبول الدعاء التذلل لله وشكر نعمته والاستعانة به من دون أي أحد من الخلق.
العودة إلى مكة
ويرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة بعد خروجه من الحائط كئيباً محزوناً كسير القلب، فلما بلغ قرن المنازل بعث الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة. ويروي البخاري تفاصيل القصة في صحيحه، فعن عروة بن الزبير: «أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: «لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت - وأنا مهموم - على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرْن الثعالب - وهو المسمى بقرْن المنازل - فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال: يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت (والأخشبان: هما جبلا مكة: أبو قبيس والذي يقابله، وهو قُعيقعان) قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئاً».
اقرأ أيضا:
كيف اختلفت معجزة الماء مع النبي عن غيره من الأنبياء؟ يوم بدر
عَلِم النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بد أنه منصور، وأراه الله مصارع المشركين ممن حضروا المعركة ضده في بدر، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأماكن مصرع كل واحد ممن سيُصرع يومها، فجعل يقول لهم صلى الله عليه وسلم : هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله .
ومع هذا، فإنه يدخل إلى العريش يستغيث ربه ويقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني!.
والسؤال : لماذا هذه الاستغاثة وقد علم بمصارع القوم؟
يجيب شيخ الإسلام ابن تيمية : ؛ لأن العلم بما يُقَدِّرُه الله ،لا ينافي أن يكون قدَّره بأسباب، والدعاء من أعظم أسبابه، كذلك رجاء رحمة الله وخوف عذابه من أعظم الأسباب في النجاة من عذابه وحصول رحمته.
وقد غلط بعض الناس هنا، وظن أن الدعاء الذي علم وقوع مضمونه كالدعاء الذي في آخر سورة البقرة لا يشرع إلا عبادة محضة، وهذا كقول بعضهم: إن الدعاء ليس هو إلا عبادة محضة؛ لأن المقدور كائن دعا أو لم يدع.
فيقال له: إذا كان الله قد جعل الدعاء سببا لنيل المطلوب المقدر فكيف يقع بدون الدعاء؟.