ها هو الشهر الكريم يزور ويكرر الفرصة، ونحن معه مثلما نحن مع غيره تأخذنا الحالات ولا ننتبه إلى منطق العمليات الغائبة، والفرص المهدرة
!!أتذكر وأستعرض رسائل المحمول التي تصلني بمناسبة الشهر الفضيل، وهي تكاد تردد نفس الثوابت بما يوحي ويؤكد فكرة
"رمضان حالة
"، فهو شهر الرحمات والصلوات والعبادات والروحانيات والحسنات، هو مناسبة للتمنيات بالسعادة وراحة البال، والنصر العزيز المؤزر لأمة طال شوقها لأي انتصار، وليس لديها أكثر من الانتظار
!!وهو شهر الطقوس كما يصف أحدهم، من دورات كروية رمضانية، وفوازير ومسلسلات درامية، وبرامج إذاعية وتليفزيونية، ومسحراتي يقرع طبله وسط جمهور سهران أصلاً، ولا يحتاج لمن يوقظه
!!وهو شهر الخشاف والكنافة والقطايف بالمسكرات، والمخلل والفول والزبادي، والأمسيات الفنية الخاصة، والخيمات الرمضانية العامة، وموائد الرحمن، وصلاة التراويح بالملايين
!!مشهد حالة وجدانية ونفسية واجتماعية نعيشها جميعا لمدة شهر ثم تنقضي، و
"كل حي يروح لحاله
"، وأسئلة الناس خلال الشهر تترواح ما بين مفسدات الصوم، وأسباب الغضب وقلة العمل في رمضان، وهل نشاهد المباريات والمسلسلات، أو نتعبد أفضل
؟! إلخ
من تلك القائمة الطويلة المعروفة من أسئلة محفوظة نرددها منذ عقود دون كلل ولا ملل
!! يأتي رمضان ثم ينفض وتنفض معه تلك الحالة الجميلة المحلقة، ثم يعود كل شيء إلى سابق عهده، فهل هذه هي حكمة رمضان وفائدته وموقعه في دين الله، وخريطة وخطة وحركة الإسلام
؟!يبدو لي أننا نأخذ من رمضان على قدر عقولنا وفهمنا وإدراكنا للشهر، ولو أدركناه على حقيقته، أو حتى بشكل آخر أعتقد أن سلوكنا فيه واستقبالنا له، وتعاملنا معه سيختلف
!!وإلى من يسألونني عن البناء والتغيير أقول أن رمضان هو ركن أساسي في عملية بناء دائمة ومستمرة وحية ودينامية يمارسها الإسلام حين يبني الدنيا والواقع من خلال العبادات والمعاملات المرتبطة بها.
يبني المجتمع كما الضمير، ويضع لبنة لبنة في صرح نفسي ووجداني وتكافلي وهيكلي بنيوي متين من خلال عمليات مترابطة تنتج حصادا مركبا ومتراكما بنظام ينبغي أن نفهمه لننجزه ونمارسه ونستفيد منه، إن كنا حقا نتحرى هذا أو نريده
!!!يتكامل صوم رمضان كمناسبة سنوية مع الصلاة الفردية كما قيام الليل مثلا، ومع صلاة الجماعة كمناسبة يومية، وصلاة الجمعة كمناسبة أسبوعية، ومحصلة التكامل والتناغم هي بناء الذات الفردية، والروحانية الشخصية، والمراقبة لرب تقابله وتقابله وتجدد العهد معه، أو تغير نظام حياتك نوما وطعاما ومعاشرة وتعاملا فقط إرضاءً لوجهه، ودون انتظار لشيء عاجل غير أن تفرح بإنجازك هذا، وبأنك قادر على السيطرة والتجاوز، تأكل بموعد، وتتوقف عن التواصل الحسي أكثر من نصف اليوم، ولمدة شهر، ومع تلك الروحانية تنبني الجماعية عبر مسارات الغدو والرواح إلى المساجد، والإمساك عن الطعام ثم تناوله معا، وعطاء الكل للكل
!!لكن من منا يرى رمضان جزءًا من عملية أو عمليات أكبر وأكثر تركيبًا وعمقًا، ويتواصل معه ويترك نفسه لمنطق الشهر الفضيل بوصفه محطة في مسار مستمر، ومهمة ضمن استكمال لما يسبق وما يلحق
؟!!وهل يمكن أن يرى أحد رمضان بوصفه هكذا، ونحن غالبًا لم ننشأ ولا نستوعب على فكرة دينامية العمليات المتواصلة في تغيير وبناء شيء أو كيان أو جماعة أو أمة عبر تفاصيل مستمرة وخطوات محسوبة ومترابطة
؟!كيف لمن يتربى على العشوائية واستبداد المشاعر على حساب العقل، وتهميش التفكير، وإهمال التخطيط بل واحتقاره وذمه أحيانا بدعوى التوكل والربانية
!!كيف يمكن لأمة تتخبط كما نتخبط أن تدرك رمضان بوصفه شيئا يتجاوز مجرد تغييرات في زي البنات وسلوكيات الشباب، وبرامج الفضائيات، وخطط وجبات الطعام ثم نعود ويعود كل شيء إلى سابق عهده
!!وبالتالي بدلا من أن يكون رمضان
محطة لاستكمال واستئناف ودعم وتحفيز عمليات التغيير والبناء والتنمية الذاتية والجماعية والاجتماعية روحيًا واقتصاديًا وثقافيًا، بدلا من أن يكون مناسبة لاكتشاف جوانب أخرى في النفس والفن والروحانية والصلة بين الأرض والسماء، وبين البشر وبعضهم مسلمين وغير مسلمين، لأن الصوم ليس خاصًا بالمسلمين وحدهم كممارسة
!!بدلا من أن يكون رمضان بهذا الثراء يصبح مجرد حالة مؤقتة ندخل ونخرج بعد شهر منها
!!حالة نرتدي لها أزياءًا معينة، ونأكل أطعمة معينة، وطقوسًا مكررة، ونفرح بها فترة ثم تنقضي سريعا، وتعود ريما لعادتها القديمة
!!!والإدراك والجاهزية والاحتشاد والشعور من أجل حالة أو في خلال حالة وجدانية محدودة في عمقها وزمانها وامتدادها وأثرها، يختلف عن الاحتشاد والشعور والتخطيط والاستفادة من ورشة تدريب وتحفيز وممارسة، وشهر ممتد لاستعادة القدرة، وكسر هيمنة وسلطان العادة، وإعادة الثقة بالنفس، والوصل الأقوى بالله سبحانه مصدر كل دعم وخير ونور ومعرفة،
دليل وبرهان أن الناس تصنع مصيرها كما تريد، تقرر أن تأكل في وقت محدد وتفعيل، وتقرر أن تتوقف عن ملذات محددة لوقت وتفعل، وتقرر أن تجتمع في أماكن بعينها لأداء شعائر أو مهام يعينها، وهي تفعل، إذًا
فهي قادرة كما ترى كل رمضان، وهي تفعل كما تشاء، ووقتما تشاء فقط حين تقرر بطواعية ودون قهر سلطان، ولا سوط سجان، ولا شعارات تغيير، أو مظاهرات وعيد أو صخب تصريحات من يكتبون عن التغيير والبناء، أو يحترفون المطالبة به أو الوعظ عنه.
ها هو الإنسان قادر، وها هو المجتمع ناجح، وها هي الأمة تستطيع، فلتسقط كل شبهات التشكيك في غير ذلك، وليعيد النظر في إحباطاته وأوهامه كل من يعتقد غير ذلك، ولترسم الخطط على هدى من حقائق يكشفها رمضان، ولكن لا يفك شفراتها إلا أولو الحكمة والهمة والهم الحقيقي بحثا عن فهم وإحياء.
وأعجب لأمة تتلو وتصدع رؤوس الدنيا بضجيجها، وتكرر في كل نقاش قول المولى:
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
" ثم هي لا تتأمل في نفسها لتدرس العلل المطلوب تغييرها بجدية وإخلاص ومنهج، ثم هي لا تضع بالتالي أي خطط أو خرائط لبناء أحوال أو أوضاع أو معارف ومشاعر تكفل الانتقال وعملياته من حال إلى حال، فقط تحفظ القرآن كما يحفظ أحدهم الشعر، أو تعليماته تشغيل ماكينة دون أية أسئلة أو محاولات تأمل تتجاوز رسم الحروف والآيات إلى الحياة بقضاياها، ولهذا يفلت منا رمضان أعوامًا بعد أعوام!
د.أحمد عبد الله
أستاذ الطب النفسي
*بتصرف يسير
اقرأ أيضا:
زوجتي طفلة كلما غضبت خاصمتني وذهبت لبيت أهلها.. ماذا أفعل؟ اقرأ أيضا:
صديقتي تريد الانتحار وأهلها رافضون ذهابها إلى طبيب نفسي .. كيف أنقذها؟