ربما قد نصر في الكثير من المواقف على اقتحام بعض المسائل الشرعية التي لا تحتمل اجتهادا لما ورد فيها من نصوص قرآنية صريحة أو أوامر نبوية، فنقتحهما بعقولنا القاصرة، ولا نمتثل لها بقلوبنا، بالرغم من أن الشرع أمر بالتدبر والتفكير، فضلا عن اختلاف الفتوى باختلاف الزمان والمكان والبيئة، إلا أن ما حزن فيه الشرع بنصوص قرآنية صريحة وأوامر نبوية فلا جدال فيها، حرصا على تطبيق شريعة الامتثال لما أمر به الشرع، مصداقا لقوله تعالى في سورة الأحزاب: " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا (36)".
جيش أسامة
ومن هذه المواقف الدالة على الآية الكريمة، هو أن النبي عليه الصلاة و السلام قبيل وفاته أعدّ جيشا تحت إمرة أسامة بن زيد ، وكان عمره لا يزيد عمره عن سبعة عشر عاما ، وكان في هذا الجيش أصحاب رسول الله الأجلاء ، بما فيهم سيدنا عمر بن الخطاب ، و سيدنا عثمان و سيدنا علي ، وكان قائدهم أسامة بن زيد ، حِبُّ رسول الله .
كان الجيش يوم مات النبي عليه الصلاة و السلام معسكرا على بُعد أميال ثلاثة من المدينة ، يتهيّأ للسير ، وأرجأت وفاة النبي عليه الصلاة والسلام زحفه ، و اختلف الناسُ بعد هذا في أمره ، فرأى فريق من المسلمين وعلى رأسهم عمر بن الخطاب أن بعْث جيش أسامة إلى الشام مخاطرة رهيبة ، في الوقت الذي أصبحت فيه المدينة نفسها عاصمة الإسلام مهددة بغزو المرتدين، وكأن لسان العقل يقول: "معقول نرسل جيشا من المدينة إلى الشام للفتح ، وكون المدينة حركة ارتداد خطيرة جدا ، ربما قضت على الإسلام كله".
وهذا كان موقف سيدنا عمر بالعقل ، فالإنسان قبل أن يفتح بلادا أخرى يضمن سلامة بلاده الداخلية ، ورأى سيدنا عمر ضرورة عودة الجيش إلى المدينة ليكون في مواجهة الأحداث الجديدة الزاحفة .
وكان أسامة نفسه قائد الجيش من أصحاب هذا الرأي ، القائد نفسه كان رأيُه أن يتجه هذا الجيش لحماية المدينة ، لكن أبا بكر رضي الله عنه رأيه غريب حسب المنطق، يستمد منطقه من إيمانه وكل قضية عنده تتسع للاجتهاد إلا قضية أبرم الله فيها حكما ، إذا القضية اللهُ سبحانه وتعالى أبرم فيها حكما هذه قضية مقطوع فيها ، أو أصدر النبي عليه الصلاة و السلام فيها أمرا .
لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم، قبيل وفاته أن يُنفذ بعثُ أسامة ، فليكن ما أمر النبيُّ به ، مهما تكن مستحدثات الظروف ، ومهما تكن الأخطار التي تهدِّد المدينة ، وهكذا كان جواب أبي بكر للناس ، ماذا قال ؟ قال هذا الصحابي الجليل : أنفِذوا بعْث أسامة ، فواللهِ لو خطفتني الذئابُ لأنفذتُه كما أمر النبي عليه الصلاة و السلام ، وما كنتُ لأردّ قضاءً قضاه النبي عليه الصلاة و السلام .
اقرأ أيضا:
قصة النار التي أخبر النبي بظهورهاموقف إيماني
في المنطق لا بد أن لايخرج ، منطق الأحداث ، و بمنطق الواقع يجب أن يبقى الجيش في المدينة ، لكن في منطق الإيمان هذا الجيش جيّشه رسول الله ، وهذا القائد عيّنه رسول الله ، وعاد بعض المسلمين و على رأسهم عمر بن الخطاب يطلبون من أبي بكر أن يجعل على رأس الجيش قائدا غير أسامة ، هذا صغير جدا ، فكيف ننفذ هذا الجيش ، وطلبوا تغيير القائد ، الذي كان فتى صغير السن محدود الخبرة ، و لا سيما وفي هذا الجيش شيوخ الصحابة وأجلاؤهم ، وهذه المسالة أيضا إذا بُحثت في المنطق المجرّد يبدو ذلك الرأي سديدا ، لكن أبا بكر في هذا شأنه في كل أمر يستمد منطقه من إيمانه ، فالذي ولّى أسامة هو رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ولقد رضيه الله الصحابة ورسول الله حي ، أفيخلع أبو بكر رجلا ولاّه النبيُّ عليه الصلاة و السلام؟.
لم يكد عمر يعرض الرأي ليُقترح على أبي بكر حتى ثار هذا الرجل الحليم ، والحليم قلّما يثور ، و لكن إذا ثار شيء مخيف ، ثار ثورة ما ثار مثلها قبلاً ولا بعدًا.
يقول أغلب رواة الحديث في هذه القصة : لما قال سيدنا عمر هذا الجيش لا نرسله ، وإذا كان بسرعة إرساله فقائد آخر ، وثب أبو بكر من مكانه ، وأخذ بلحية عمر و هزّها هزًّا شديدا ، وقال : ويحك يا ابن الخطاب ، ثكلتك أمُّك أجبار في الجاهلية خوّار في الإسلام ، أيولِّيه رسول الله و تأمرني أن أعزله ، هكذا.
أبو بكر الوديع اللطيف البكَّاء الحليم الهادئ الذي يؤثر أن يبقى في الظل هكذا يفعل ، ثم قام يتبعه عمر ، قام سيدنا الصديق يتبعه عمر إلى حيث كان الجيش معسكرا فدعاهم للتحرك على بركة الله ، و سار معهم وودّعهم ، و مشى الخليفة على قدميه إلى جوار أسامة الذي كان ممتطيا ظهر فرسه ، الشاب الذي لا يزيد عن سبعة عشر عاما يركب فرسه ، و سيدنا الصديق الشيخ الوقور خليفة المسلمين يمشي على رجليه .
يستحيي سيدنا أسامة أن يكن على فرسه وأبو بكر ماشيا فهمّ بالنزول داعيا خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الركوب ، فثبّته أبو بكر بيده في مكانه ، وهو يقول : واللهِ لا نزلتَ ولا ركبتُ ، وماذا عليّ أن أغبِّر قدمي في سبيل الله ساعة ، وأراد أن يبقى راكبا ليرفع له شأنه أمام أفراد الجيش ، كل أمر عنده سهل ، و كل جلل يهون إلا أمرا يدعوه إلى الخروج قيد أنملة عن طاعة الله و رسوله .
بعد ذلك لم تكد القبائل المرتدّة تشهد جيش أسامة متوجها نحو الشام إلا خافت ، وقالت : واللهِ لو كانت المدينة تئن تحت وطأة الضعف والخلاف كما سمعنا ما كان بوسعها أن تبعث هذا الجيش في هذه الأيام لتقاتل الروم ، فالذي حدث أن خروج هذا الجيش إلى الشام و الفتن مستعرة في المدينة ، والارتداد على أوجه أوحى لكل المرتدين أن الموقف متين جدا ، قالوا : واللهِ لو كانت المدينة تئن تحت وطأة الضعف والخلاف كما سمعنا ما كان بوسعها أن تبعث هذا الجيش في هذه الأيام لتقاتل الروم ".
يقول بن مسعود رضي الله عنه: " لقد قمنا بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم مقاما كدنا نهلك فيه لولا أن منَّ الله علينا بأبي بكر " .