يبين أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية منهج البحث التاريخي عند ابن حزم فيقول: "إنه لا يوجد منهج متكامل للبحث التاريخي قدمه لنا ابن حزم بهذا العنوان؛ ذلك لأن مصطلح "المنهج" بمعناه العلمي لم يكمن قد استعمل خلال هذه العصور، وإن وجدت دلالات وإشارات منهجية متعددة لدى كثير من المفكرين، وليس معنى ذلك أن ابن حزم لم يشر ـ نصاً ـ في بعض الأحايين، واستنتاجاً ... وتطبيقاً في أكثر الأحايين إلى معالم منهجه في البحث التاريخي؛ بل إنه قام بذلك فعلاً...

وعلى هذه النصوص المتناثرة والاستنتاجات والتطبيقات نعتمد في عرض وتحليل معالم منهجه التاريخي.

وجدير بالذكر أن التاريخ عند ابن حزم هو التاريخ "بمعناه الكلي"، وهذا يجعل ثقافة ابن حزم وتكوينه الفكري ـ الموسوعي يتصلان اتصالاً كبيراً بمنهج ابن حزم هذا، كما أنهما يمثلان القاعدة التي تقف فوقها معالم هذا المنهج .

ويضيف د. "عويس" وبما أن الظاهرية تمثل معلماً من معالم منهج ابن حزم بعامة ، فقط طبقها في التاريخ أيضاً، وقد أوجبت لديه الاحتفاء بالنقل والاستكثار من السنن وطرح كل ما يشوبه التجريح؛ أي أنها قد جعلت من منهج الحديث ضرورة في دراسة التاريخ، إذ النقل أساس للظاهرية قبل العقل ، كما أن العمل بدلالة اللغة الظاهرة دون تأويل؛ هو أساس للظاهرية أيضاً، وعند دراستنا لجوامع السيرة، ولرسائل ابن حزم ودراساته التاريخية الأخرى؛ سوف نجد الالتزام الشديد بهذا المنهج؛ بل إنه قد مزج مزجاً متكاملاً بين منهجي الظاهرية؛ الذي يعتمد الأثر والنقل، وبين منهج التاريخ في رسالته عن "حجة الوداع"؛ بحيث إننا ـ ونحن نقرأ هذه الرسالة ـ نحس أننا أمام كتاب في الحديث والتاريخ معاً.

ويبين أن ابن حزم قد أورد منهجه في صدر رسالة حجة الوداع، فبين أنه أراد سرد رحلة حجة الوداع بلفظ كأنها مشاهدة رأي العين ـ حين خروج النبي من المدينة إلى مكة إلى حين رجوعه إلى المدينة ـ بذكر الأحاديث الواردة فيها، إما بلفظ الرسول، أو لفظ من شاهد فعله، ولم نقتحم الحكم فيما لم نقف على بيانه، ولا جسرنا على القطع فيما لم يلح لنا وجهه، ولا قضينا فيما لم نشرف على حقيقته، وأما حكمنا بالرأي ـ أي الهوى ـ فمعاذ الله من هذه الخطة.

 ويشير د. عويس أن ابن حزم قد تأثر في هذا الجانب ـ بمنهج ابن إسحاق والطبري وابن الفرضي، فكل هؤلاء قد اعتمدوا في التاريخ؛ أسلوب التحقيق العلمي عن طريق "العنعنة" المتصلة، أو حدثني ، أو حدثنا فلان عن فلان، ولم يظهر لدى هؤلاء الأعلام اتجاه واضح نحو التفسير أو التعليل، وإنما انحصر منهجهم في أمور أربعة اعتبرها السبكي "شروط المؤرخ" وهي: الصدق، واعتماد اللفظ دون المعنى في الرواية، والثقة في تسجيل النص، وتسمية المنقول عنه.

وإذا كان من المعلوم أن لعلم الحديث صلة وثيقة بعلم التاريخ؛ بحيث اعتبر الأخير انبثاقاً من الأول، وامتداداً له في الهدف والمنهج ـ فإن ابن حزم كان ينطلق من هذا الإدراك؛ حين أطلق على علم التاريخ أنه "علم الخبر" بينما تحدد كتب مصطلح الحديث تعريفها لماهية علم الحديث؛ بأنه مرادف للأثر والخبر.

ويذكر أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية أنه في شروط ابن حزم؛ التي يقبل على أساسها "الخبر"، نرى أننا أمام شروط تصلح للمحدث والمؤرخ على حد سواء؛ فقد كان ابن حزم ـ إلى جانب التزامه بمنهج الظاهرية في الضبط والدقة والتزام ظاهر اللفظ في المعنى ـ يمثل مرحلة أكثر تقدماً في البحث التاريخي من المؤرخين السابقين، فلئن كان الطبري مجرد جامع وراو للحوادث برواياتها المختلفة دون ترجيح أو تحقيق لتناقضاتها، أو أي تأثير على القارئ بالحكم على بعضها، كما يعترف هو في صدر كتابه الكبير في قولـه : "وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه بما اشترطت أني راسمه فيه؛ إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا مستدل إلى روايتها فيه دون ما أدرك بحجج العقول، واستنبط بفكر النفوس ... فمهما يكن في كتابي هذا من خير ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستبشعه سامعه ... فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقلين إلينا، وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدى إلينا".

لئن كان الطبري ـ ومدرسته إلى أيام ابن الفرضي في الأندلس ـ قد اكتفى بتوثيق الرواية التاريخية ـ فإن ابن حزم قد أقدم على إعمال العقل في المتن المروي، وعرضه على بديهيات الحس وأوليات العقل.

ـ إن ابن حزم قد أعطى "العقل" في منهجه مكانة تقترب من مكانة "النقل"، وبتعبير آخر: إنه جمع بين منهجي النقل والعقل في تآزر وتكامل، موقناً بأن هذا هو المنهج الصحيح للبحث، فالنقل وحده لا يكفي في صحة الرواية التاريخية، فلربما كان مضمونها عند التحليل لا يستقيم ولا يصح عقلاً .

والمتأمل في نقد ابن حزم للكثير من القصص الديني الذي ورد في التوراة والأناجيل؛ يلاحظ أنه كان يحكم عقله في كل رواية من الروايات الواردة في هذين  الكتابين؛ بل الحكم بقبولها أو رفضها، ولعل هذا هو السبب في أننا نجده قرر أحياناً أن بعض روايات التوراة هي أقرب إلى الخرافات منها إلى أي شيء آخر.

ويدلل د. عويس على مميزات منهج البحث التاريخي عند ابن حزم  فيقول إن من صور الدقة العلمية في منهج البحث التاريخي عند ابن حزم ـ أنه لجأ إلى الإحصاءات وتتبع غرائب التاريخ؛ ففي رسالته (نقط العروس في تواريخ الخلفاء)؛ يقدم لنا ابن حزم التاريخ الإسلامي إلى عهده، في تركيز شديد، وحشد لكثير من التفصيلات الغريبة والشاذة؛ التي تقدم لنا في مجموعها صورة كلية تضغط حقائق التاريخ وتكثفها، وتظهرها لنا وكأنها لوحة مشحونة بالوقائع، أو ملحمة زاخرة بالحركة ، صاخبة بالصراع، ولم تخل جمهرة الأنساب من عشرات الأمثلة التاريخية الشاذة التي التقطها ابن حزم وأبرزهاـ فالفضل بن عبد الملك أقام الحج بالناس سبعة عشرة عاماً متوالية، والإمام الفقيه سليمان بن داود بن العباس كان له أخوات ست متن أبكاراً.

ونتيجة لاعتماد ابن حزم على منهج الحديث والظاهرية في توثيق سند الرواية ومتنها، وعلى المنهج العلمي والإحصائي؛ الذي يأخذ بأسلوب التحليل العقلي والنقد الداخلي، ورصد  الظواهر وتجميعها ، تحقق لابن حزم قدر كبير من الثقة في نتائج دراساته ... وهذا يفسر لنا القطعيّة و"الحتمية"، وعبارات "لا شك ولا بد" التي يصدر بها بعض أحكامه