النسيان من الأشياء التي يقع فيها الناس ليل نهار، وهي قد تبدو في بعض الظروف رحمة من الله سبحانه وتعالى حينما ينعم علينا بالنسيان للتغلب على الظروف القاسية، أو فقد عزيز علينا، حتى تستمر الحياة، وربما يكون النسيان في ظروف أخرى من قبيل الإهمال، أو الضغوط النفسية والعصبية التي يمر بها أغلبنا نتيجة السعي وراء تربية الأبناء ولقمة العيش، خاصة وأن الكثير من الناس يعمل على أقل تقدير في وظيفتين ليتغلب على ظروفه المعيشية.
آفة النسيان
فكير من الناس قد ينسى بر أمه وأبيه، فقد يظل الشهر والشهرين دون ان يسأل عليهما، نتيجة انشغاله برزق أبنائه، وقد يتناسى الإنسان صلة أرحامه، فهناك من لم يزر أقاربه ولا يراه سنوات طويلة، وإن رآهم ربما تكون رؤيتهم مصادفة، ومنا من لم يفي بحقوق الصداقة فينسى السؤال على أصدقائه وأهل الفضل عليه، ومنا من ينسى الله عز وجل وهو القاهر فوق عباده، فقد ينشغل أحدنا طوال اليوم في اجتماع أو عمل أو كتابة وأداء ما يكلف به من أعمال في وظيفته قد تنسيه القيام للصلاة من الصبح إلى العشاء.
وقد يصل الأمر بالإنسان ان يعاني في صلاته من النتسيان بشكل دائم فلا يدري في كل صلاة هل صلى الظهر أربعة ام ثلاثة ركعات، وهو أغلب مانعاني منه.
ومن الناس من ينسى أن يقول لزوجته كلمة طيبة، ومن الناس من ينسى ذكر الله فلا يذكر الله إلا حينما يقول له صديقة عند الازمات وحد الله او استغفر الله، ومنا من ينسى أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أن البعض ينسى الكثير من الأشياء الهامة في حياته مثل مواعيد العمل أو زيارة الطبيب، أو الوفاء بالعهد وتأدية الحقوق، فيفرط ما بين النسيان والضيق الحال في أصحاب الحقوق عليه.
النسيان سمة إنسانية
وقد ثَبَتَ أنَّ النسيان هو سمة إنسانية حتى أن آدم نسي ما امر به ربه من عدم الاقتراب من الشجرة، فأكل منها بعد أن وسوس له الشيطان، قال تعالى: " وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىَ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ".
كما أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَسِيَ بعضَ آياتٍ من القرآن، وهو في الصلاة. وصَلَّى الظُّهرَ -مَرَّةً- خَمْسَ رَكعات. ونَسِيَ في صلاة العصر فَسَلَّمَ من ركعتين. ونَسِيَ في صلاة المغربِ فسَلَّمَ من ركعتين. وكذلك نَسِيَ التَّشهُّدَ الأوَّلَ في صلاة الظُّهر. ونَسِيَ -مَرَّةً- الاغْتِسالَ من الجَنابة, ثُمَّ تَذَكَّرَ.
وصحَّ عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-؛ أنه قال: "إِنَّمَا سُمِيَّ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا؛ لِأَنَّهُ عُهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ". فالنِّسيان: ضِدُّ الذِّكْر والحِفْظ.
والنسيان هو سهوٌ حادِثٌ بعد حصول العلم. قال ابن عاشور -رحمه الله-: "النِّسْيَانُ: عَدَمُ خُطُورِ الْمَعْلُومِ السَّابِقِ فِي حَافِظَةِ الْإِنْسَانِ بُرْهَةً أَوْ زَمَانًا طَوِيلًا".
اقرأ أيضا:
8فضائل للنهي عن المنكر .. سفينة المجتمع للنجاة ودليل خيرية الأمة الإسلامية ..تكفير للذنوب ومفتاح عداد الحسناتالله منزه عن النسيان
وقد نزه الله تعالى نفسَه عن النِّسيان؛ لأنه صِفَةُ نقصٍ, قال -تعالى-: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)[مريم: 64]؛ وقال موسى -عليه السلام-: (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى)[طه: 52].
وأمَّا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فيَعْتَرِيه ما يعْتَرِي البَشَرَ من النِّسيان وعدمِ التَّذَكُّر؛ يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ, أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ"(رواه البخاري).
وبالرغم من نسيان النبي صلى الله عليه وسلم، بعض الأشياء، إلاَّ أنه محفوظٌ من النِّسيان فيما يتعلَّق بالوحي، فلا يَنْسَى منه شيئًا, إلاَّ بِمُقتضى أمرِ اللهِ تعالى وحِكمتِه. فإذا تعلَّق الأمر بأحوال الدنيا جاز عليه النِّسيان؛ لأنه بَشَرٌ من البشر -صلى الله عليه وسلم، وإذا تعلَّق الأمر بالوحي عُصِمَ من النِّسيان إلاَّ ما شاء اللهُ بحكمتِه وعِلمِه، قال تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)[الأعلى: 6, 7].
لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا
ومن وسائل علاج النسيان ما أمر الله تعالى به في خواتيم سورة البقرة، لرفعَ الإثمَ والحَرَجَ عن النَّاسِي : (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)[البقرة: 286].
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ".
والمؤمن الحقُّ يَذْكُر ذُنوبَه ويتوب منها ويَذْكُر حُقوقَ الناس فيؤديها، وأمَّا الظالِمُ لنفسِه فإنه ينسى الذنوبَ، ويُضَيِّعُ الحقوقَ؛ قال -تعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)[الكهف: 57].
لذلك امر الله عز وجل بكتابة الدين صيانة للحقوق، خشيةَ النِّسيان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ... وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ)[البقرة: 282].
وأمَرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بكتابة العِلم؛ خشيةَ نِسْيانه؛ كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ".
فمن رحمة الله أن جعل الدِّينَ يُسْرٌ، وأنَّ الناسَ مُعَرَّضون للنِّسيان أثناء أداء العِبادات، ويشهدُ لذلك: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ"(رواه البخاري).
والنِّسيانَ والخطأَ مَعْفُوٌّ عنهما في الشريعة، فلا إثمَ على المُخْطِئِ فيما أخطأَ فيه ولا إِثمَ على النَّاسي فِيما نَسِيَه. ولكنْ لا بد أنْ نُفَرِّقَ بين رَفْعِ الإثمِ عنهما, وبين تَرَتُّبِ حُكمٍ آخَرَ على الخطأ, أو النِّسيان.
فإذا نَسِيَ المُصَلِّي شيئاً من واجبات الصلاة؛ فيقال: لا إثمَ عليه, ولكنْ عليه سجودُ السَّهْو. وإذا نَسِيَ الحاجُّ شيئاً من واجبات الحج؛ فيقال: لا إثمَ عليه ولكنْ عليه دَمٌ. وإذا أتْلَفَ المرءُ شيئاً من مالِ صاحِبِه أو زَرْعِه خَطأً؛ فيقال: لا إثمَ عليه ولكنْ عليه القِيمَةُ. وإذا قَتَلَ مُؤمِناً خطَأً؛ فعليه الدِّيةُ والكفَّارةُ. وإذا أتْلَفَ مَالَ غيرِه خَطَأً؛ فعليه ضَمَانُ ما أتْلَفَه.
ومَنْ نَسِيَ الوضوءَ فصلَّى بغيرِ وضوءٍ ناسِياً؛ فلا إثم عليه, ولكنْ عليه إعادةُ الصلاة. ومَنْ نَسِيَ التَّسميةَ على الوضوء؛ فلا إثمَ عليه, ووضوؤه صحيح. ومَنْ تَرَكَ التَّسميةَ على الذَّبيحة نِسْياناً؛ فالراجحُ أنَّ ذَبِيحتَه تُؤكَل. ومَنْ تكلَّمَ في صلاتِه ناسِياً؛ فالراجح أنَّ صلاتَه صحيحةٌ ولا إعادَةَ عليه. ولو حلفَ الرَّجلُ على شيءٍ لا يفعله ثم فعَلَه ناسِياً أو مُخطِئاً؛ فالراجح أنه لا يَحْنَثُ.
ومَنْ نَسِيَ أنْ يُصَلِّي المغربَ ثم تذكَّر بعدَ العِشاء؛ وَجَبَ عليه القضاءُ متى تَذَكَّر؛ لقول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلاَةِ, أَوْ غَفَلَ عَنْهَا؛ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا, فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِى)"(رواه مسلم).
ومَنْ صَلَّى وفي ثوبه نجاسةٌ، ثُمَّ عَلِمَ بعد الصلاة؛ هل تلزمه الإعادةُ؟ الراجح أنَّه لا إِعادةَ عليه؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ؛ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ, فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ.
فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَتَهُ, قَالَ: "مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَائِكُمْ نِعَالَكُمْ؟"، قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ جِبْرِيلَ -صلى الله عليه وسلم- أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا".