رأى أحمد وهو طفل صغير، كائنا يمشي على أربعة قوائم وله فراء وذيل، أخبره والده أنه "كلب" لطيف. بعد أيام سأل والده باستغراب يا أبي: لماذا يأكل هذا الكلب الحشائش؟ أخبره والده أن هذا ليس كلباً، وإنما هو خروف.
يمثل المثال السابق نموذجا مبسّطا للمخططات الذهنية schema، فدماغنا عضو اقتصادي يميل إلى تصنيف الأشياء والأحداث والأماكن، لتيسير الوصول إليها، من خلال تطوير المخططات الذهنية عن طريق تجميع السمات المشتركة العامّة، والاستعانة بها للحكم على أي عنصر جديد تنطبق عليه هذه السمات. فالطفل في المثال السابق طوّر مخططا، يعني مفهوماً صحيحاً للكلب، وهو كائن ذو أربعة قوائم وفراء وذيل، وهي سمات انطبقت كذلك على الخروف. وبمعونة التأثير البصري وتوجيه فرد راشد تبيّن له خلل المخطط، ولذا سيقوم بتعديل المخطط ووضع سمات استبعاد تخص الخروف. وهذه العملية - عملية مراجعة المخطط الذهني وتعديله - مجهدة ومسببة للتوتر، وهذا هو السبب الذي تجاهل بسببه أحمد السمات التي لا تؤيد مخططه الذهني (مثال: الإلية، وشكل الفراء).
المخططات الذهنية وتأثيرها على حياتنا
دعونا الآن ننتقل إلى مثال أكثر تعقيداً: تُوفي والدا الطفل وليد في طفولته في حادث انتقل بعده إلى حضانة جدته حتى سن الخامسة عشرة، حيث أصبحت بسبب عامل السن لا تتمكن من رعاية شاب مراهق، فأخذته عمته إلى حضانتها، إلى أن تركها متوجها إلى المدينة حين انتقل للجامعة، وبعد سنوات تزوّج من إحدى زميلاته والتي انفصلت عنه بعد ذلك وتزوجت صديقه.
فكّر معي في صورة المخطط العلاقاتي الذي قام وليد ببنائه.. "كل من أحبهم إما أن أتركهم أو يتركوني، وأنني مهما كنت جيداً فسيتم هجري لأجل من هو أفضل، وكذلك لا يستطيع أحد إشباع احتياجاتي بشكل كاف"؛ وهذه بعض السمات التي تتمثّل في مخطط ذهني لشاب مثل وليد، وهو ما يفسّر انسحابه المجتمعي بعد ذلك وفشله في بناء علاقة حميمية.
يُعرِّف يونج [Young, 2003] المخطط بأنه نمط واسع ومستمر فيما يخص الفرد -ذاته- وعلاقته بالآخرين، والذي يتم بناؤه خلال الطفولة، ويتم تفصيله على مدار حياته، والذي يكون معطِّلاً بدرجة معتبرة. وبحسب يونج، تتكون المخططات في الطفولة كنتيجة لتجارب سلبية مع الوالدين والإخوة والرفاق، ونتيجة لهذه التجارب فمن الشائع تشويش المواقف الحياتية ورؤيتها بشكل يدعم صدق المخططات، ويظل المخطط كامناً إلى أن يتم تنشيطه بفعل المواقف المتعلّقة به، وقد حدد يونج 18 منظومة تم تنظيمها في خمسة نطاقات.
وقبل أن نتطرق للنطاقات الخمسة، من المهم أن نوضح أنه يمكن لمخططاتنا الذهنية أن تتحول ضدنا، فبإمكانها تعديل المدخلات إليها من معلومات وأحداث لتوكيد صحتها، وتجنب أو إسقاط أي أدلة تعارضها، لأننا لا نرغب في الاعتراف بخلل المخطط والقيام بتعديله. وقد قام العالم بتتبع أشهر المخططات الذهنية وتقسيمها داخل خمسة نطاقات، نستعرضها فيما يلي:
١- نطاق العزلة والرفض
التوقع بأن احتياجاتنا لن يتم تسديدها بالشكل المنتظر، وغالباً ينشأ هذا الفرد في أسرة جافة المشاعر أو الانعزال والرفض أو الإساءة، ويشمل هذا النطاق مخططات عدم الاستقرار وتوقع الإساءة والحرمان والشعور بالخزي والاغتراب.
٢- نطاق نقص الذاتية والأداء
التوقع بفشل الانفصال أو فقدان القدرة على الاستقلالية مع الحفاظ على أداء ناجح، ونجد أن أسرة هذا الفرد تتسم -غالباً- بالحماية المفرطة أو اشتباك الأدوار، ويشمل مخططات الاعتمادية والهشاشة النفسية وضعف الذات والاعتقاد بالفشل وتوقعه.
٣- نطاق خلل الحدود
الشعور بالافتقار الداخلي للحدود، أو فهم معنى المسؤولية عن/تجاه الغير، وتتسم أسرة هذا الفرد بالتساهل أو التدليل الزائد ونقص الإرشاد، وتشمل مخططات الفوقية وضعف الانضباط، ويشمل كذلك محاولات الهروب ورفض أي قدر من الألم أو التوتر.
٤- نطاق تتبع الآخرين
ونجد فيه تركيزا كبيرا على رغبات ومشاعر واستجابات الآخرين، وتتسم أسرة هذا الشخص بشكل غالب بالقبول المشروط، وقد نجد بعض الوالدين يقدمان احتياجاتهما/رغباتهما على احتياجات الأبناء، ويشمل مخططات التسليم/الخنوع بتسليم القرارات أو التنازل عن المشاعر لصالح الغير، أو التضحية بالذات واحتياجاتها لصالح الآخرين، ونجد هنا سلوكيات إرضاء الآخرين، طلباً للقبول أو هرباً من الرفض.
٥- نطاق التثبيط
يمثل هذا النطاق طيفاً من تثبيط التلقائية في السلوكيات والمشاعر، أو استبطان معايير جامدة فيما يخص الأخلاقيات والمسموحات، وتتسم عائلة هذا الشخص بالكمالية بشكل رئيس والتشدد في تطبيق المعايير، وتشمل مخططات الوسواسية والسلبية والتشاؤم.
والآن يا صديقي، أين تجد نفسك، وما هي المخططات التي تجدك أسيراً لها؟ هل تعتقد أنه حان الوقت لمراجعة صورتك عن نفسك والآخر والحياة؟ هل ما زلت تخلط بين الكلب والخروف؟ ألقاك قريباً في مقالة قادمة.
د.شهاب الدين الهواري
اختصاصي الطب النفسي
*بتصرف يسير