لسنوات طويلة سادت فكرة أن العقل والوجدان وإدارة السلوك هي نتاج لنشاط المخ، ونعني به المخ الموجود في الرأس، وأنه يسيطر على الجهاز العصبي، ومن خلاله يسيطر على بقية الأجهزة مثل الجهاز الدوري والجهاز التنفسي والجهاز الهضمي والجهاز التناسلي من خلال ما نسميه الجهاز العصبي اللاإرادي (Autonomic Nervous System) كما أن المخ يوجد به جهاز للمشاعر موجود في الجهاز الطرفي (limbic System) واللوزتين (Amygdala) ومراكز أخرى، وفيه مجلس إدارة التفكير والتوجيه والسلوك الواعي في الفص ماقبل الأمامي من المخ (Prefrontal Cortex).
علاقة المخ والقلب
ولكن في السنوات الأخيرة بدأت هذه الفكرة تهتز، وتكاد تترنح، حين اكتشف العلماء أن ثمة أعداد كبيرة من العصبونات (الخلايا العصبية) موجودة داخل القلب وخارجه وفي منطقة الصدر، وهذا ما نسميه "المخ القلبي"، وهذا المخ القلبي يمنح القلب وظائف تتصل بالإدراك والتفكير والاعتقاد والمشاعر وغيرها وأن القلب العضوي ليس مجرد مضخة للدم كما كنا نعتقد. وأثبتت الدراسات التي أجراها العالم McCraty وزملاؤه بمعهد رياضيات القلب IHM في كاليفورنيا أن قوة المجال الكهرومغناطيسي المنبعث من القلب تبلغ 5000 ضعف المجال المنبعث من المخ، ويمتد إلى مسافة 10 أقدام على شكل دائرة حول الجسم!. في حين أن المجال الكهربائي للقلب يبلغ 60 ضعفاً عن مثيله بالمخ!. وبناءاً على قواعد علم الفيزياء يكون القلب هو العضو الذي له اليد العليا في السيطرة على باقي أعضاء جسم الإنسان كهرومغناطيسياً، وليس المخ كما هو معتقد. وتتكون الشبكة العصبية في القلب من العقد (ganglia ) توجد أساساً في الطبقة السطحية للقلب وبنسبة أقل في الدهن المغلف للقلب وتتكون كل عقدة من خلايا عصبية (Neurones) تشبه مثيلاتها في المخ تمامًا، ويخرج منها ألياف عصبية تتصل بدورها بالخلايا الأخرى عن طريق تشابكات عصبية (synapses). وتتركز معظم العقد في الأذينين حيث يصل عددها حوالي 500 وعدد أقل في البطينين حوالي 100، أي حوالي 80 % منها يقع في الأذينين (وخاصة الجزء العلوي والجدار الخلفي منهما) وقدرت عدد الخلايا العصبية في بحث "أمور" 14000 خلية، في حين قدرها "ماك كريتى وزملاؤه" فيما بعد بمعهد (M.H.I) بكاليفورنيا بـ40000 خلية عصبية داخل القلب.
اقرأ أيضا:
نصائح للتعامل مع الزوجة خلال فترة الحيض؟علاقة المخ والجهاز الهضمي
واكتشف العلم أيضا أن عددا أكبر من الخلايا العصبية قد يصل إلى مائة مليون خلية في بطانة الجهاز الهضمي من البلعوم إلى المستقيم، وأن ثمة مخ هائل يتكون من الميكروبيونات (الميكروبات والفيروسات النافعة والصديقة) يصل وزنه إلى 2 كجم أي مايقارب وزن المخ الموجود في الرأس موجودة في الجهاز الهضمي ولها تأثير كبير ليس فقط على عملية الهضم، ولكن على سلامة الإنسان عموما وعلى جهاز المناعة والهورمونات، وعلى الأجهزة الأخري بل ولها تأثير على المخ وعلى الحالة النفسية، وهذا مانسميه "المخ البطني" أو "الجهاز العصبي البطني"، ودراسته تشكل طفرة علمية هائلة في فهم العلاقة بين الهضم والتفكير والحالة المزاجية والسلوك في الصحة والمرض . وهذا "الجهاز العصبي البطني" يفسر لنا حالات مرضية كثيرة مثل القولون العصبي والإمساك المزمن والإسهال غير المسبب، واضطرابات المعدة، وآلام البطن المزمنة، وعلاقة هذه الاضطرابات بحالات القلق والاكتئاب.
والدراسات الحديثة توضح أن العلاقة في الاتجاه الآخر أيضا قائمة بمعنى أن اضطرابات الجهاز الهضمي تبعث رسائل عصبية للمخ فتؤدي إلى ظهور أو زيادة حدة اضطرابات القلق والاكتئاب، وهذا يفسر وجود اضطرابات في الجهاز الهضمي بنسبة 30-40% من مرضى القلق والاكتئاب.
علاقة المخ بـ "البطن"
وهذه الاكتشافات عن علاقة البطن بالمخ تفتح أبوابا لعلاجات جديدة لاضطرابات البطن مثل مضادات القلق والاكتئاب، والعلاجات النفسية غير الدوائية مثل العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، والعلاج النفسي التدعيمي، وعلاج اليقظة الذهنية (Mindfulness)، وغيرها، وأيضا علاجات البطن العضوية لمرضى القلق والاكتئاب. وسوف نرى أن المتخصصين في الجهاز الهضمي يصفون مضادات القلق والاكتئاب لمرضاهم ليس لاعتقادهم بأن هؤلاء المرضى يعانون مشكلة نفسية (في مخ الرأس)، ولكن لأن هذه الأدوية تعمل مباشرة على تهدئة الخلايا العصبية التي في البطن بشكل مباشر، فقد وجد أن ثمة أعداد هائلة من مستقبلات السيروتونين موجودة في البطن، وهي المستقبلات التي تعمل من خلالها مضادات القلق والاكتئاب "ربما أكثر مما هو موجود في المخ).
اقرأ أيضا:
أغبياء لكنهم بارعون في تسويق أنفسهم أمام الناس؟!ويذهب فريق آخر إلى أن هناك مخ رابع موجود في الجهاز التناسلي ومراكزه في الحبل الشوكي، وهذا مانسميه "المخ الجنسي"، وأن هذا المخ – كما بقية الأمخاخ – تؤثر بقوة في المخ الرئيسي "مخ الرأس"، وتتأثر به، وأن سلامة الإنسان جسديا ونفسيا تتوقف على الهارموني بين تلك الأمخاخ وتكامل العمل بينها، وسلامة كل مخ على حدة. وفي المجال الطبي تصبح مسؤولية صحة الإنسان الجسدية والنفسية مشتركة بين تخصصات متعددة وليس تخصص واحد.
الميكروبيوم.. كلمة السر
وعلى الرغم من الاعتقاد السائد بأن البكتريا والفيروسات كائنات ضارة وعلينا التخلص منها بقوة وحزم بواسطة مضادات البكتريا والفيروسات (المضادات الحيوية وغيرها)، إلا أن العلم اكتشف أن هناك ما يسمى بالعضو الخفي في الأمعاء يزن كما ذكرنا حوالي 2 كجم ويسمى الميكروبيوم (Microbiom)، وعدد خلاياه يقدر بالتريليونات، أي ما يساوي عدد خلايا الجسم مجتمعة، وهذه الخلايا عبارة عن بكتريا وفيروسات صديقة لها فوائد هائلة لصحة الجهاز الهضمي ولصحة الإنسان عموما، وأنها حين تضطرب يصبح لها علاقة قوية بكثير من الأمراض المستعصية المنتشرة في العالم وخاصة في السنوات الأخيرة مثل الأمراض المناعية كالتصلب المتناثر، والذئبة الحمراء والالتهابات الليفية العصبية (الفايبروميالجيا) والروماتويد والبهاق والإكزيما والكرونز والصدفية، والعديد من الاضطرابات النفسية، وأمراض القلب والضغط والسكر والسرطانات، وغيرها.
إذن فكلما قوي الميكروبيوم كلما زادت مناعة الجسم ومقاومته لهذه الأمراض، وكلما ضعف كلما زادت معدلات الإصابة بها. والسؤال الآن: ماذا يقوي هذا العضو الخفي المؤثر؟؟
نذكر من ذلك : تناول الخضروات والفواكه بكميات مناسبة، تناول الأطعمة المحتوية على البكتيريا المفيدة كالزبادي البلدي واللبن الرايب واللبنة وخميرة البيرة، تناول الأعشاب والتوابل الطبيعية وخل التفاح، السمك البحري والسلامون والتونة، المكسرات والبقول، الدهون المفيدة كالزبد الحيواني وزيت الزيتون وزيوت الأوميجا3، وفيتامين D، مكملات البروبايوتيك (مثل الزبادي والكرنب الأحمر والبنجر والمخللات والجبنة)، مكملات الجلوتامين ( مثل الدواجن والأسماك والمكسرات ومنتجات الألبان، الماغنسيوم).
أما ما يضعف هذا الجهاز الحيوي (الميكروبيوم) فنذكر على سبيل المثال: المضادات الحيوية، القلق والتوتر والاكتئاب، مضادات الحموضة، تناول الكثير من الأطعمة التي تزيد من الالتهابات العامة مثل الدقيق الأبيض والمعجنات والسكر الأبيض والحلويات والعصائر والدهون المهدرجة، ومشروبات الصودا (المياه الغازية) بجميع أنواعها.
وإذا كان الجسد يصلح ويصح بأمخاخ متعددة ومتكاملة، فهكذا المجتمع لايصلح ولا يصح إلا بأمخاخ متعددة ومتواصلة ومتكاملة، وأن البكتيريا والفيروسات ليست بالضرورة كائنات ضارة دائما بل قد تكون مفيدة وصديقة وحيوية .
د.محمد المهدي
أستاذ الطب النفسي – جامعة الأزهر
*بتصرف يسير