تحدثنا في مقال سابق عن "النصب"، وماهيته، والتركيبة النفسية للنصاب، ونكمل عبر هذا المقال وفي السياق نفسه، الحديث عن التركيبة النفسية للضحية التي يقع عليها فعل النصب .
الصورة النمطية لضحية النصب –كما تأتي في الأفلام القديمة– هي القروي الساذج، أو الشخص العبيط الغرير، أو كبار السن، أو منخفضي الذكاء عموماً، وهذا جائز في عمليات النصب البدائية التي يقوم بها هواة ويستخدمون وسائل بسيطة.
أما في هذا العصر فإن ضحايا النصب قد يكونون غاية في الذكاء وعلى قدر كبير من التعليم والثقافة، وقد يكونون رجال أعمال لديهم خبرة كبيرة بالسوق وطباع البشر، وهنا يحتاج الأمر إلى نصّابين محترفين من نوع خاص يستطيعون استمالة واستهواء واستلاب هذه النوعية من البشر، ويستطيعون تحييد دفاعاتهم وتخدير حذرهم وحرصهم، ويستطيعون اللعب على نقاط ضعفهم، وبهذا ينجحون في خداعهم.
والضحية من النوع الأخير يشعر بالدهشة والصدمة، ويشعر أيضاً بالخجل من نفسه ومن الآخرين، وربما يمنعه هذا من الإبلاغ عن النصّاب لأنه يشعر بالعار ويسأل نفسه "كيف حدث هذا معي؟!! لقد نجح هذا الشخص في اغتصابي وأنا سلمت له نفسي!!!".
وكما في سائر الجرائم يلعب الضحية في جرائم النصب والاحتيال دورًا مهمًا وإيجابيًا في حدوث الجريمة بوعي أو دون وعي، وبناءً على التركيبة النفسية للضحية نستطيع أن نقسمهم إلى أنواع مختلفة:
1) الطمّاع: وقد يكون أكثر طمعاً وجشعاً من النصّاب، وهنا يلتقط الأخير فيه هذه الرغبة المتوحشة في الثراء فيلوح له به، ويلعب على نقطة ضعفه بمهارة شديدة، وينجح في استثارة غريزة التملك لديه، وهي غريزة قوية بطبعها في الإنسان لا تهدأ ولا تشبع. وحين تستثار غريزة التملك يتم استبعاد العقل النقدي بدرجات متفاوتة تسمح للنصّاب بنصب شباكه حول الضحية مهما كان ذكاء الأخير وفطنته.
والطمّاع لديه شراهة هائلة للمال، وتلك الشراهة تجعله لا يصبر على تنمية أمواله بالطرق المستقيمة المعهودة، بل يريد طرقاً جديدة وغير مألوفة، وهنا فقط يقبل المغامرة والمخاطرة لتحقيق كسب سريع بأقل جهد ممكن وحبذا لو كان بغير جهد مطلقاً، وفي تلك الظروف يقل حرص الطمّاع وحذره، وهنا يدخل النصّاب عليه فيجده جاهزاً للتسليم على الرغم من ذكائه وحرصه المتوقع.
وهذا يفسر لنا كيف تتم عمليات نصب واحتيال على رجال أعمال كبار وعلى شخصيات لها مكانتها الاجتماعية المرموقة ولا يتوقع منها غفلة أو سذاجة. وقد يتكرر خداع مثل هذه الشخصيات مرات بعد مرات دون أن تتعلم الدرس أو يتعلم غيرها، وبهذا تتوالى حوادث النصب والاحتيال في المجتمع على الرغم مما يحوط كل جريمة من توعية وتحذير.
2) الكسول (الاعتمادي السلبي): وهو يسلم أمواله للنصّاب بهدف استثمارها كنوع من الاستسهال لديه لأنه لا يريد أن يتعب نفسه في استثمارها، ولا يكلف نفسه حتى عناء البحث والتقصي عن تاريخ وسلوك النصّاب، بل إنه يرضى بأي ضمانات يمنحه إياها النصّاب ويقنع نفسه بكفايتها وفاعليتها حتى لا يكلف نفسه الكسولة مزيداً من المشقة.
3) الساذج: وهو بطبيعته قليل الذكاء يسهل التغرير به وخداعه، ولا يحتاج مجهوداً من النصاب غير أن يعطيه فقط إحساساً بالأمان والرعاية والتقدير، وبما أن الساذج يفتقد لهذه الأشياء فهو ينظر للنصّاب على أنه شخص طيب يمكن الوثوق به.
4) المحتال: ويحتاج هذا النوع من الضحايا لنصّاب أكثر قدرة منه على الاحتيال، وهنا تحدث مباراة في النصب والاحتيال يفوز بها الأكثر دهاءً وذكاءً ومراوغة. والضحية المحتال تعوّد في حياته أن يكسب من الطرق الخلفية، لذلك فهو لا يشعر بالغربة حين يتعامل مع النصّاب، إذ أن أصل ثروته كان غير مشروع وجاء من طرق غير معهودة، وهو قد ألف تلك الطرق، بل إنه لا يطيق غيرها، إذ تعود أنها الأسرع والأسهل لجمع المال.
5) المستفِز: وهذا النوع يعيش حياة كلها ترف وبذخ ويظهر ثراؤه بشكل يجمع حوله النصابين والمحتالين حيث تستمر محاولاتهم للإيقاع به، وتواتيهم الفرصة في وقت ما وفي ظروف ما تضعف دفاعات الضحية فينفذون إليه من أي جانب. والمستفِز لديه شراهة هائلة للاستهلاك، ومن هنا يكتشفه النصابون بينما هو يقوم بالإنفاق ببذخ فيسيل لعابهم لماله.
6) بعض الفئات الهشة: كصغار السن، أو كبار السن، والقرويين، وأصحاب الذكاء المنخفض، والمرضى النفسيين الذين يفتقدون القدرة على التمييز أو الحكم السليم على الأمور، وذوي الاحتياجات الخاصة.
البيئة المحيطة بعملية النصب
هناك بيئة نستطيع وصفها بأنها بيئة محرضة على النصب والاحتيال، وهذه البيئة لها خصائص نذكرها فيما يلي:
1) الفساد: حيث ينتشر في كثير من جوانب الحياة، فيبدأ الأطفال أولى دروسهم في النصب من خلال الغش في الامتحانات، ويتعلمون منذ نعومة أظفارهم أن يحصلوا على أشياء دون بذل جهد أو تعب، وهم يجدون تشجيعاً من ذويهم ومن المجتمع على ذلك ويعتبرون ذلك شطارة وفهلوة، فيكبرون وقد تطبّعوا على ذلك فيكملون طريقهم بالرشوة والسرقة والاختلاس وتزوير الانتخابات واغتصاب السلطة، أي سلطة.
2) الحرمان: والحرمان هنا أمر نسبي، إذ ليس بالضرورة أن يكون النصّاب فقيراً أو معدماً، وإنما يكفي شعوره الشخصي بالعوز والفقر حتى ولو كان غنياً، فالأمر هنا نسبي ويعتمد على إدراك الشخص لحاجاته ونواقصه. والحرمان ليس مقصوراً على الحرمان المادي بل قد يكون حرماناً من الأمان أو حرماناً من الحب، أو حرماناً من التقدير الاجتماعي، أو حرماناً من تحقيق الذات، أو غيره من أنواع الحرمان... وهنا يتجه الشخص للنصب للحصول على أموال الآخرين بهدف إشباع ذلك الحرمان، ويصبح المال هنا وسيلة رمزية للإشباع عن حرمانات متعددة.
3) عدم الأمانة: بمعنى أن تصبح الأمانة شيئاً ثانوياً أو هامشياً في المجتمع؛ فتجد صاحب السلطة يسيء استخدام سلطته، والطبيب ليس أميناً مع مرضاه، والمحامي يمارس أقصى درجات الخداع والتمويه وربما التزوير، والمهندس لا يراعي الله ولا يراعي ضميره في مواد البناء، والحرفي لا يتقن عمله، والقاضي غير نزيه.
4) الطمع: فكل إنسان يريد أن يحصل على أقصى ما يمكن وأن يتفوق على أقرانه في الامتلاك والملكية، وأن يتباهى بما لديه، وأن يشعر بالأمان كلما تضخمت ثروته (أو يوهم نفسه بذلك). وحين تستعر غريزة التملك لا يمكن أن يطفئها مال، فهناك "اثنان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال"، "ولو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى ثالثاً"، "ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب."
5) نمط الحياة: كأن تكون لدى الناس شراهة استهلاكية تدفعهم للتورط في شراء واقتناء أشياء كثيرة تفوق قدراتهم فيضطرون للاقتراض ثم للنصب، وربما للسرقة أو الاختلاس أو حتى القتل. أو يكون الشخص من المقامرين أو المدمنين حيث تزيد الحاجة للمال عما تتيحه فرص الكسب الطبيعي. أو تكون لدى الأشخاص رغبة في الظهور بمظهر الثراء أو الكرم الزائد كنوع من المباهاة الاجتماعية.
6) ضعف القوانين وبطء التقاضي: مما يمنح النصّاب فرصة للاستفادة من ثغرات القوانين ومن يأس الناس من الحصول على حقوقهم عن طريق القضاء.
7) شيوع قيم الفهلوة واعتبارها نوعاً من المفهومية والشطارة والذكاء.
ولكي نرى جريمة النصب في المجتمع المصري وندرك خطورة شيوعها وانتشارها ثم نتحدث عن علاجها، فلا بد أن نرى جذورها وتشعباتها ومكافئاتها المختلفة، فنرى مبكراً جريمة الغش في الامتحانات، ونرى جريمة الوساطة والرشوة، ونرى جريمة تزوير الانتخابات، ونرى جريمة اغتصاب السلطة، فكلها جرائم متصلة يكمن خلفها الكذب وسلب الحقوق والعدوان على الآخر والتلذذ بنهبه.
ولا يمكن علاج النصب في الأموال دون تنقية وتنظيف الضمير ثم المجتمع من كل هذه الانحرافات الأخلاقية والسلوكية، والتي يتورط فيها مجرمون تقليديون في بعض الأحيان، ويتورط فيها مجرمون غير تقليديين من ذوي الياقات البيضاء والمراكز البرّاقة في أغلب الأحيان، وهذا الفريق الأخير هو ما يطلق عليه "السيكوباتي المهذب".
اقرأ أيضا:
زوجتي طفلة كلما غضبت خاصمتني وذهبت لبيت أهلها.. ماذا أفعل؟اقرأ أيضا:
صديقتي تريد الانتحار وأهلها رافضون ذهابها إلى طبيب نفسي .. كيف أنقذها؟