يبين د. عبد الحليم عويس أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية جانبا مضيئا في حياة ابن حز الذي لا يفطن بعض الناس لعلاقته بالتاريخ وأنه مؤرخ حيث اهتموا بجانب من حياته ومواهبه وأهملوا جوانب أخرى كثيرة.
ويضيف في مقال له جاء تحت عنوان" ابن زم مرخا.. كنا قد نشرنا الجزء الأول منه ونستكمل في هذه السطور باقي ملامح التاريخ في حياة ابن حزم وعلاقته به
ويوضح د.
عويس أنه ومع وضوح الغايتين الدينية والتعليمية من دراسة التاريخ عند ابن حزم؛ فإنه ـ من وجهة النظر الحديثة ـ لم يستطع أن يستوعب الفوائد المتعددة التي تعطيها الدراسة التاريخية، وعلى رأسها : أن التاريخ لا يدرس لذاته؛ وإنما ليكون مفتاحاً لفهم الحاضر، ولخدمة المستقبل، ومنها أن التاريخ هو سجل محفوظات الماضي، مثلما لكل مؤسسة محفوظات ورفوف.
ويذكر أستاذ التاريخ والحضارة أنه في ضوء هذه الغايات التي تتحقق من دراسة التاريخ؛ يجعل ابن حزم (علم التاريخ)، من العلوم الثلاثة؛ التي تتميز بها كل أمة عن الأمم الأخرى، وهو يضع التاريخ "علم أخبار الأمم" بعد "علم الشريعة" ، وقبل "علم اللغة" ... فهو العلم الثاني في الأهمية عند ابن حزم قبل كل العلوم .
وتأتي بعد هذه العلوم الثلاثة؛ التي تتميز بها الأمم : العلوم الأربعة الباقية؛ التي تشترك فيها كل الأمم، ولا علاقة لها بالشخصية الحضارية للأمة، وهي (علم النجوم، وعلم العدد، وعلم الطب، وعلم الفلسفة).
ومن جانب آخر يعتبر التاريخ عنده باباً من أهم الأبواب للوقوف على الحقائق؛ التي لا تأتي إلا بشدة البحث، وكثرة المطالعة لجميع الآراء والأقوال، والنظر في طبائع الأشياء، وسماع حجة كل محتج، والنظر فيها، والتفتيش والإشراف على الديانات والنحل، والمذاهب والاختبارات ، واختلاف الناس، وقراءة كتبهم.
وفي هذا المجال يرى ابن حزم أن السيرة (وهي رأس التاريخ الإسلامي)؛ تحتل المكانة التالية للقرآن ... إنها مكانة الحديث الذي منه سيرة النبي ، الجامعة لكل الفضائل، المحمودة في الدنيا، والموصولة إلى الآخرة، ولابد مع هذه السيرة من مطالعة الأخبار القديمة والحديثة .
فلسفة التاريخ عند ابن حزم :
من المعروف أن الآراء قد اختلفت في العصر الحديث حول فلسفة التاريخ، فظهرت الفلسفة المادية؛ التي ترجع حركة التاريخ، واطراد التقدم ؛ إلى الاقتصاد، وصراع الطبقات ، ووسائل الإنتاج، كما أن هناك التفسير "النفسي" للتاريخ، وهناك التفسير "اللاهوتي"، وهناك من يرجعون تقدم التاريخ إلى "الأبطال"، ومن يرجعونه إلى "الاستجابة والتحدي" والعوامل الفكرية والروحية...
والسؤال هنا :
هل أدرك ابن حزم أن للتاريخ تفسيراً؛ أي عوامل تحرك الأمواج التاريخية الكبرى ؟
وذلك بالمعنى الفلسفي الذي ذهب إليه العلامة عبد الرحمن بن خلدون (808هـ)، وبحث عنه
ـ من خلف آلاف المعارك ـ فولتير؟
وللإجابة على هذا السؤال نقول :
إننا عندما ندرس فكر ابن حزم التاريخي نجد فيه بذوراً للوعي؛ بأن وراء جزئيات أحداث التاريخ عوامل كبرى تؤثر في حركته.
ولئن كان ابن حزم لم يوضح لنا ـ كما فعل ابن خلدون ـ أن هذا "تفسير للتاريخ" ـ إلا أننا نستطيع القول : إن ما قدمه ابن حزم في هذا السبيل، كان من جملة البذور أو الخمائر؛ التي ظلت تنضج، حتى استطاع ابن خلدون أن يقدمها في إطارها المتكامل، وصورتها المشرقة في باب فلسفة التاريخ.
لقد أدرك ابن حزم أن هناك فرقاً بين فعل الله في الكون؛ الذي هو قوانين وسنن حتمية، وبين فعل الإنسان ... الذي هو العنصر الإنساني المؤثر في رقي الحضارة ... أو في اندحارها.
ومن خلال هذا الإدراك درس ابن حزم العوامل؛ التي تجعل حركة الإنسان في التاريخ حركة إيجابية، ورفض الخلط بين ما يمكن لنا تسميته :"الحتمية الكونية"، وبين "الحركة الإنسانية"، فبينما تكون الأولى إجبارية اضطرارية تكون الثانية "طبيعة ممكنة في التصرف".
ويوضح ابن حزم رأيه؛ حين يرد على الذين يلوكون كلمتي القضاء والقدر على أنهما بمعنى الإكراه والإجبار، وليس كما ظنوا؛ وإنما معناهما الحكم فقط، فالقاضي بمعنى الحاكم، ويكون معناها أيضاً أَمَرَه، وبمعنى أَخَبَرَ، وبمعنى رتـَّب ونظم؛ أي أنه ليس من معانيهما الإكراه والإجبار.
وهذا الإطلاق لحرية الحركة الإنسانية يقيده ابن حزم "بالتركيب الأخلاقي"؛ الذي يحد منها، ويكاد يجعلها حرية شكلية، فهو يقول : "ومن عرف تراكيب الأخلاق المحمودة والمذمومة على أنه لا يستطيع أحد غير ما يفعل مما خلقه الله عز وجل فيه، كذلك يوجدون من طفولتهم، والسيئ الخلق لا يقدر على الحلم... وهكذا في كل شيء ... فصح أنه لا يقدر أحد إلا على ما يفعل بما يتم الله تعالى فيهم القوة على فعله، وإن كان خلاف ذلك منوهاً منهم بصحة البنية وعدم المانع".
وَيُعتـْرضُ في هذا المقام على رأي ابن حزم في الحرية الإنسانية؛ أن نظريته تلك تتعارض مع الحجم الذي يمنحه الفكر الإسلامي نفسه للحرية الإنسانية؛ فالإنسان في الإسلام يحظى باهتمام كبير سواء في التكاليف العقائدية الأخلاقية والتشريعية؛ التي أنيطت به ... أو في العروض التاريخية؛ التي يبدو فيها دور الفرد مسئولاً حراً ... وحيثما أمعنا في استخدامات القرآن اللغوية بتعابير عديدة تدلنا على الأهمية الكبيرة التي يوليها القرآن للفرد والجماعة على السواء، وهي أهمية تتعارض بوضوح مع التفسيرات التي تجعل دور الفرد "ثانوياً" في حركة التاريخ،
أو محكوماً بقوانين تسلبه الحرية والمسئولية، وهو ما كاد ابن حزم يقع فيه.
ومع ذلك فبإمكاننا أن نقول مطمئنين : إن ابن حزم يندرج تحت قائمة المفكرين الإسلاميين؛ الذين يرون أن أحداث التاريخ تصنعها ـ في البداية وفي إطار الحركة الكونية ـ إرادة الله ومشيئته.
ودور الإنسان في هذه الحركة ـ عند ابن حزم ـ دور محكوم بهذه الحركة الكونية، وبمجموعة الطبائع الفطرية التي خلقه الله عليها ...
ويدلنا فكر ابن حزم على أن هناك عناصر ثلاثة ركز عليها ابن حزم، وقدمها كعوامل تسهم بدرجة كبيرة في إبداع الحضارة، وهي كلها عوامل تؤكد أن الجانب الروحي والفكري ـ وهو ما ركز عليه أكثر المفكرين الإسلاميين ـ "هو أهم تفسير للتاريخ"، وأن العوامل المادية والبيئية
ـ مع ضرورتها ـ تحتل مرتبة تالية في صنع الحضارة، وفي استمرار تماسكها.
وهذه العناصر التي ركز ابن حزم عليها هي :
1ـ العقيدة والشريعة :
"فلابد لكل أمة من معتقد ما، إما إثبات وإما إبطال" كما يقول ابن حزم ( ).
وأهمية العقيدة تأتي عنده من أنها تشبه الروح؛ التي توجه الإنسان إلى البناء، وتنقي باطنه من الأمراض الاجتماعية والخلقية؛ بل إن العقيدة ـ نتيجة إصلاحها للنفس وتقويمها لها وتوجيهها في طريق مرسوم ـ هي التي تدفع إلى الاهتمام بالتحصين الظاهري الذي يحمي الأمة كبناء الأسوار والحصون، واتخاذ السلاح، وما إلى ذلك من ضرورات إقامة الأمم، وتحقيق أمنها ورخائها.
بل إن ابن حزم يرى أن فضيلة الفهم والنطق والعقل ستبطل في الإنسان، ويصير ـ بدون العقيدة والشرائع الزاجرة باطناً وظاهراً ـ كالبهائم سواء بسواء .
والحق أن رؤية ابن حزم لدور العقيدة ـ سواء كانت العقيدة صحيحة أك باطلة في بعض أركانها ـ رؤية جديدة انتهى إليها كثير من المفكرين ؛ الذين أصبحوا يسمون عصرنا هذا بعصر "الأيديولوجيات"؛ بل إن ثمة إجماعاً من المفكرين على أهمية دور الفكر والتشريع في الصراع الحضاري بين الأمم، وإن أمة تملك عقيدة وفكراً ـ مهما كان خطأ بعض تصوراتها ـ لهي أقوى على الصمود والإبداع من الأمة التي تعيش بلا عقيدة أو شريعة ، مهما تكن الأسباب المادية متوافرة لدى هذه الأمة .
ويرى ابن حزم أن للتربية والتعليم دوراً مهماً في بناء المجتمع ورقي الأمة، ونحن نلمح التفرقة في فكر ابن حزم بين مصطلحي التربية والتعليم، وهو أمر انتهى إليه المربون، وأصبحوا يفرقون به بين ما ينمي ملكات العقل، ويُكوّن المشاعر والاتجاهات الصحيحة، وبين ما يمكن أن يحتشد به العقل، ويكون مجرد حشد من المعلومات .
وقد وسع ابن حزم مفهوم التعليم؛ فجعله يضم كل العلوم تطبيقية ونظرية وهو ـ أيضاً ـ مفهوم جيد بالنسبة للمفاهيم التي سيطرت على التربية في كثير من عصور التاريخ الإسلامي، وهي تلك المفاهيم التي حقرت من "علوم المعاش" ، وكادت تقصر العلم على "علوم الدين"، والعلوم النظرية كالأدب واللغة.
2ـ الأخلاق :
ومن خلال فكر ابن حزم يتجلى تركيزه على الأخلاق، ودورها في بناء الأمة ورقيها، ويذهب ابن حزم إلى أن جوهر الأخلاق هو "الصدق" ، فهو عنده أصل تدور حولـه كثير من الأخلاق الأخرى، وابن احزم يستلهم في ذلك النظرة الإسلامية؛ التي تهتم بالصدق مع النفس، ومع الله، ومع الآخرين، أيما اهتمام؛ وذلك لأن الصدق أساس لإقامة الحياة الاجتماعية .
ويتركب الصدق عند ابن حزم من فضيلتي العدل والنجدة، وأما الكذب فيضم كثيراً من الأمراض المهلكة .
ومن الناحية الحضارية، يقول ابن حزم عن أثر الكذب : "وما هلكت الدول ولا هلكت الممالك، ولا سفكت الدماء ظلماً ، ولا هتكت الأستار بغير النمائم والكذب"، ثم يورد ابن حزم نماذج متعددة، ونصوصاً تتضافر كلها على تأكيد دور الكذب في إفساد الحياة .
والحق أننا نستطيع أن نجد في الفكر التاريخي لابن حزم إشارات دالة على عديد من مقومات الحضارة، كما أننا نستطيع أن نستنتج أن افتقاد هذه المقومات من شأنه أن يجعل البناء الحضاري للأمة آيلاً للتداعي، وليس تماسكه إلا عملية وقتية.
وبإيجاز: لقد كان ابن حزم من المفكرين المسلمين الأول؛ الذين اتجهوا إلى الحديث عن بعض قضايا الفكر التاريخي من ناحية "البناء النظري"، وكانت جهود هؤلاء المؤرخين هي التمهيد القوي؛ الذي نجح من خلاله الفيلسوف العلامة (عبد الرحمن بن خلدون)؛ في تقديم بناء نظري فلسفي متكامل للفكر التاريخي.