لقد استطاع القائد المحنك السلطان محمد الفاتح إدارة المعركة بشكل لافت .. فبعدما جهز الجيش وهيأ الجنود ورفع من معنوياتهم اتخذ خطوات نحو مدينة القسطنطينية حيث زحف إليها ووصلها في (26ربيع الأول 857هـ ـ السادس من إبريل سنة 1453م).. ويواصل المؤرخ الإسلامي الكبير د. عبد الحليم عويس استعراض صفحات البطولة في إدارة المعركة وإزالة العقبات التي عرضت له.
يقول: حاصرها من البر بمائتين وخمسين ألف مقاتل، ومن البحر بأربعمائة وعشرين شراعاً فوقع الرعب في قلوب أهل المدينة، إذ لم يكن عندهم من الحامية إلا خمسة آلاف مقاتل، معظمهم من الأجانب، وبقى الحصار (53 يوماً) لم ينفك العثمانيون أثناءها عن إطلاق القنابل (مصر والعالم سنة صدور العام المائة، 314، 315، الهلال ـ مصر).
تمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية:
ومن الأمور المهمة التي فعلها الفاتح كما يقول د. عويس أنه قام بها الفاتح؛ قيامه بتمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية؛ لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة خلالها إلى القسطنطينية، وقد تحركت المدافع من أدرنة إلى قرب القسطنطينية في مدة شهرين؛ حيث تمت حمايتها بقسم من الجيش حتى وصلت الأجناد العثمانية يقودها الفاتح بنفسه إلى مشارف القسطنطينية، فجمع الجند، وكانوا قرابة مائتين وخمسين ألف جندي، فخطب فيهم خطبا قوية حثهم فيها على الجهاد، وطلب النصر، أو الشهادة، وذكّرهم فيها بالتضحية، وصدق القتال عند اللقاء، وقرأ عليهم الآيات القرآنية التي تحث على ذلك، كما ذكر لهم الأحاديث النبوية؛ التي تبشر بفتح القسطنطينية، وفضل الجيش الفاتح لها وأميره، وما في فتحها من عز للإسلام والمسلمين، وقد بادر الجيش بالتهليل والتكبير والدعاء، وكان العلماء ينبثون في صفوف الجيش مقاتلين ومجاهدين معهم؛ مما أثر في رفع معنوياتهم حتى كان كل جندي ينتظر القتال بفارغ الصبر ليؤدي ما عليه من واجب .
تقسيم الجيش:
ومن ثم قام السلطان (محمد الفاتح) بتوزيع جيشه البري أمام الأسوار الخارجية للمدينة، مشكلاً ثلاثة أقسام رئيسية تمكنت من إحكام الحصار البري حول مختلف الجهات، كما أقام الفاتح جيوشاً احتياطية خلف الجيوش الرئيسية، وعمل على نصب المدافع أمام الأسوار، ومن أهمها المدفع السلطاني العملاق؛ الذي أقيم أمام باب طوب قابي، كما وضع فرقاً للمراقبة في مختلف المواقع المرتفعة والقريبة من المدينة، وقد انتشرت السفن العثمانية في المياه المحيطة بالمدينة، إلا أنها في البداية عجزت عن الوصول إلى القرن الذهبي؛ حيث كانت السلسلة العملاقة تمنع أي سفينة من دخوله، بل وتحطم كل سفينة تحاول الاقتراب.
مشكلة مضيق القرن الذهبي:
وكان هذا القرن الذهبي وسلسلته هو التحدي أمام العثمانيين، فالحصار بالتالي لا يزال ناقصاً ببقاء مضيق القرن الذهبي في أيدي البحرية البيزنطية، ومع ذلك فإن الهجوم العثماني كان مستمراً دون هوادة؛ حيث أبدى جنود الانكشارية شجاعة عجيبة وبسالة نادرة، فكانوا يقدمون على الموت دون خوف في أعقاب كل قصف مدفعي، وفي يوم (18 إبريل) تمكنت المدافع العثمانية من فتح ثغرة في الأسوار البيزنطية عند وادي ليكوس في الجزء الغربي من الأسوار، فاندفع إليها الجنود العثمانيون بكل بسالة محاولين اقتحام المدينة من الثغرة، كما حاولوا اقتحام الأسوار الأخرى بالسلالم التي ألقوها عليها، ولكن المدافعين عن المدينة بقيادة جستنيان استماتوا في الدفاع عن الثغرة، والأسوار، واشتد القتال بين الطرفين دون جدوى.
كيف تجاوز محمد الفاتح مشكلة مضيق القرن الذهبي؟
لكن الله ألهم السلطان الفاتح طريقة يستطيع بها إدخال سفنه إلى القرن الذهبي دون الدخول في قتال مع البحرية البيزنطية متجاوزاً السلسلة التي تغلق ذلك القرن، وهذه الطريقة تتمثل في جرّ السفن العثمانية على اليابسة حتى تتجاوز السلسلة؛ التي تغلق المضيق والدفاعات الأخرى، ثم إنزالها مرة أخرى إلى البحر، وقد درس الفاتح وخبراؤه العسكريون هذا الأمر، وعرفوا ما يحتاجونه من أدوات لتنفيذه، والطريق البرية؛ التي ستسلكها السفن، والتي قدرت بثلاثة أميال، وبعد دراسة دقيقة ومتأنية للخطة اطمأن الفاتح للفكرة، ولقي التشجيع من المختصين لتنفيذها، وبدأ العمل بصمت على تسوية الطريق وتجهيزها، دون أن يعلم البيزنطيون الهدف من ذلك، كما جمعت كميات كبيرة من الأخشاب والزيوت.
وبعد إكمال المعدات اللازمة أمر الفاتح في مساء يوم (21 إبريل) بإشغال البيزنطيين في القرن الذهبي بمحاولات العبور من خلال السلسلة فتجمعت القوات البيزنطية منشغلة بذلك عما يجري في الجهة الأخرى؛ حيث تابع السلطان مدّ الأخشاب على الطريق الذي كان قد سوّى، ثم دهنت تلك الأخشاب بالزيوت، وجرت السفن من البسفور إلى البرّ؛ حيث سحبت على تلك الأخشاب المدهونة بالزيت مسافة ثلاثة أميال، حتى وصلت إلى نقطة آمنة فأنزلت في القرن الذهبي، وتمكن العثمانيون في تلك الليلة من سحب أكثر من سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من العدو، بطريق لم يُسبَق إليها السلطان الفاتح في التاريخ كله قبل ذلك.
تنفيذ الفكرة بنجاح:
وقد كان القائد (محمد الفاتح) يشرف بنفسه على العملية التي جرت في الليل بعيداً عن أنظار العدو ومراقبته، وفي صباح (22 إبريل) استيقظ أهل المدينة على صيحات العثمانيين وأصواتهم يرفعون التكبير والأناشيد التركية في القرن الذهبي، وفوجئوا بالسفن العثمانية وهي تسيطر على ذلك المعبر المائي، ولم يعد هناك حاجز مائي بين المدافعين عن القسطنطينية، وبين الجنود العثمانيين .
وهكذا نجح محمد الفاتح في تجاوز مشكلة مضيق القرن الذهبي ونفذ الفكرة بحكمة وكانت مفاجأة للبيزنطيين الذين تملكهم الرعب من هول المفاجأة..
كيف تم الفتح.. وكيف تمكن الجنود المسلمون من اقتحام أسوار المدينة المنيعة بحصونها.. هذا ما يتعرض له د. عبد الحليم عويس في الحلقة القادمة.