كان الخليفة أبو جعفر المنصور من دهاة السياسة ومؤسسي الدول، يتوقد ذكاءًا، وله في ذلك أخبار ظريفة ونادرة، تكشف عن فراسته ومعرفته بأصول الناس واختلاف طباعهم.
قصته مع الواعظ:
كان المنصور ذات يوم يخطب وقد علا بكاؤه، إذ قام رجل فقال: يا وصاف تأمر بما تجتنبه، وتنهى عما ترتكبه، بنفسك فابدأ بنفسك ثم بالناس.
فنظر إليه المنصور وتأمله وقطع الخطبة ثم قال لأحد رجاله: يا عبد الجبار، خذه إليك.
فأخذه عبد الجبار، وعاد إلى خطبته حتى أتمها وقضى الصلاة، ثم دخل ودعا بعبد الجبار فقال له: ما فعل الرجل؟ قال: محبوس عندنا يا أمير المؤمنين.
اقرأ أيضا:
هل القلوب تصدأ .. وما الفرق بين "الران" و" الطبع" على القلب؟خديعة من المنصور:
قال أبو جعفر المنصور: اعرض له بالدنيا فإن امتنع عنها وهجرها فلعمري إنه لواعظ حقا، وإن كان كلامه ليقع موقعا حسنا؛ وإن مال إلى الدنيا ورغب فيها إن لي فيه أدبا يزعه عن الوثوب على الخلفاء وطلب الدنيا بعمل الآخرة.
فخرج عبد الجبار فدعا بالرجل وقد دعا بغدائه فقال له: ما حملك على ما صنعت؟
قال: حق كان الله في عنقي فأديته إلى خليفته، قال: ادن فكل من هذا عليك من أكل الطعام إن أمير المؤمنين، قال: لا حاجة لي فيه، قال: وما عليك من أكل الطعام إن كانت نيتك حسنة فلا شيء.
سقوط الواعظ ونهايته:
فدنا فأكل، فلما أكل طمع فيه. فتركه أياما ثم دعاه وقال: غفل عنك أمير المؤمنين وأنت محبوس، فهل لك في جارية تؤنسك وتسكن إليها؟
قال: ما أكره ذلك، فأعطاه جارية ثم أرسل إليه: هذا الطعام قد أكلت والجارية قد قبلت، فهل لك في ثياب تكتسيها وتكسو عيالك إن كان لك عيال ونفقة تستعين بها على أمرك إلى أن يدعو بك أمير المؤمنين؟
قال: ما أكره ذلك، فأعطاه. ثم قال له: ما عليك أن تصنع زيادة تبلغ بها الوسيلة من أمير المؤمنين إن أردت الوسيلة عنده إذا ذكرك؟
قال: وما هي؟ قال: أوليك الحسبة والمظالم فتكون أحد عماله تأمر بمعروف وتنهى عن منكر، قال: ما أكره ذلك؛ فولاه.
ودخل الواعظ على المنصور،فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله، فقال: وعليك، ألست القائم بنا والواعظ لنا ومذكرنا بأيام الله على رؤوس الملأ؟
قال: نعم، قال: فكيف حلت عن مذهبك؟ قال: يا أمير المؤمنين فكرت في أمري فإذا أنا قد أخطأت فيما تكلمت به، ورأيتني مصيبا في مشاركة أمير المؤمنين في أمانته.
فقال: هيهات.. هبناك يوم أعلنت الكلام، وظننا أنك أردت الله به فكففنا عنك، فلما تبين لنا أنك الدنيا أردت جعلناك عظة لغيرك حتى لا يجترئ بعدك مجترئ على الخلافة.. أخرجه يا عبد الجبار فاضرب عنقه، فأخرجه فقتله.